عليّ(ع) في نظر ألفيلسوف جورداق


المقدمة:

يا عليّ ..

أيّها العليّ الذي ما عرف حقّهُ سوى الله و الرّسول!

ماذا عسايَ أنْ أكتب عنكَ و آلقلم يرتجف بين أناملي كلّما حاولت آلبدء بآلكتابة .. الخوف يتملّكني لكن الشوق يجذبني, و طمعي بشفاعتك يشد عزيمتي للمزيد .. و أنتَ أماميّ بقامةٍ عجزتْ كلّ لغات العالم من وصف خَلقكَ؛ خُلقكَ؛ شجاعتك؛ صبرك؛ رحيميتك و رحمانيتك؛ إخلاصك؛ و فائك؛ و فوق كل هذا .. تواضعك, و فوق فوق كل هذا حقيقتك اللامتناهية التي ما كانت ترتاح إلا لثلاث:

الأطفال(لطهارة فطرتهم) و المسجد(لعبادة الله) و التراب(لبلوغك آلآدمية) من دون البشرية و الأنسانيّة! 

فتارةً .. أراكَ و أنت تنظر للقوم و قد إجتمعوا في آلسقيفة للتآمر على الله, لكن (الوصية) منعتك من محوهم بسيفك البتار الذي ما أخطأ ضربة أبداً, لكنك ركنت للصبر محتسباً بقاء الأمة فكان في حلقك شذى .. و تحمّلت و كمْ تحملت!!

ثم أتأملك .. و أنت تقف في (صفين) حزيناً مقهوراً و أنت تشهد نزيف الأمة الملعونة .. غير مبالياً بأحدٍ و لا بالهزيمة التي ما كانت لها مكان في قاموسك أبداً حتى و أنت طفل صغير؛ لكنك كنت تعلم تبعات (التحكيم) و ما جري على أهل بيتك خصوصاً حسنك و حسينك ثمّ أوليائك من بعدك!

و أخرى .. أتأملك خاطباً للصدى في بئرٍ ببستان الكوفة ليرتدّ .. بآيات اليأس و الخيانة من أهل الكوفة الذين ما زالوا لا يعلمون حتى أبجديات الحق من الباطل لفقدانهم ولايتك التي أكدها الباري تعالى حتى قبل بعثة الرسول(ص) في التوراة و الأنجيل و الزبور!

لقد كسر الجّميع قلبك .. لكنك لم تكسر قلب أحد!

لهذا أستحي الله أن أقول أنتَ الله ...

أيّها العظيم: لقد كنتَ سيدي و إمامي و مرشدي و صديقي و منقذي من المهالك .. و ما أكثرها .. و كنت لمجرد إستحضارك بقلبي ساعة الضيق و الحاجة بأنت تحميني, و ما بخلت على أحدٍ من قبلي و لا بعدي .. مع إني لم أكن أستحقّ أكثرها, إلا لكوني أحببتك فقط منذ الصّغر .. بل منذ ولادتي .. لتكوني أوّل و آخر حبّ حقيقي لي في هذه الدّنيا .. 

و لا أدري ربما كان هذا قدري من الأزل .. من عالم الذّر .. أو ما قبله, ثمّ كبر ذلك الحبّ الذي لم أكن أفهم أسراره و أبعاده .. و كأنه كان يُؤهّلني و يشدّني في كل مرحلةٍ لأمرٍ كبيرٍ جدّاً ربّما بدأت أعرف بعض ملامحه و إشاراته آلآن بعد رحلة العمر الغريبة ألمتعبة التي جاوزت السّتين ..

و ها أنا اليوم مُسجّىً كما تعلم يا سيدي على سريري في مستشفى (سان مايكل) بكندا, و أبدأ يومي و أختمه بإسمك العظيم لأنّكَ العليّ العظيم و باب الله الذي من خلاله ندخل الجنة .. و لم يبق .. سوى عشقكَ الأزلي الذي حملتهُ بأنّاةٍ و صبرٍ و لم أتنازل عنه رغم كلّ طغاة الأرض و المعاناة الكبيرة التي لقيتها في كلّ طريق و محطة راجياً معهُ الشّفاعة و حُسن العاقبة ..

لا أدري كيف ملكتَ القلب سيديّ .. و أعتقد يقيناً بأني لست الوحيد المتيم بحبك .. بل كلّ المسلمين الحنفاء و الناس الطيبين الأخيار .. حتى اليهود و النصارى و المجوس و الهندوس منهم يحبونك و يقدسونك, بدليل أن هيئة الأمم المتحدة في زمن كوفي عنان قدم لائحة و رسائل لجميع حكومات العالم يأمرهم الأقتداء بنهجك ..

و كيف لا يحبك من عرفك؟

لكني أفتخرُ من دون معظم الناس - إن لم أقل كلّهم - بأنيّ ما نطقتُ بكلمة (سيدي) أمام أحدٍ من الخلق إلّا أمامك و لكَ وحدكَ .. فأنت مّنْ يستحق ذلك فقط, بعكس الناس الذين لا يفقهون الكثير من أسرار هذه الدُّنيا لذلك قالوها و مراجعهم لكلّ من هبّ و دبّ ليعيشوا أذلاء خانعين حاقدين حتى على أنفسهم و على كل البشرية!!

سيدي العظيم: هل يُوجد من قرأ صفحةً من سيرتك و لم يعشقك!؟

بل أنا على يقين بأنّ قاتلك (عبد الرحمن بن ملجم المرادي) نفسه حين أراد شجّ هامتك الشريفة في المحراب, قد نادى؛ (يا عليّ) لتمكينه من ذلك, و إلّا ما كان لا هو و لا كل أبطال الدّنيا من التمكين لقتلك حتى و أنت ساجد!! 

سيدي : لم أجد عبارةً أقوى و أشدُّ تعبيراً عن مظلوميتك و عظمتك في نفس الوقت .. لأبدأ مقالي هذا .. سوى قول الفيلسوف (جورج جورداق), الذي قال بعد ما عشقكَ مثليّ رغم كونهِ من المسيحيين:

[قُتل عليٌّ في محرابه لِشدّة عدله],

راجياً منكَ قبوله يوم لقائي الذي أتمنى أنْ يكون قريباً, فقد فاض الشوق بي إليك و أنت العالم العارف الأكبر أللامتناهي في كلّ آلأبعاد الكونية العظيمة!

أما قصّة جورداق .. فأنها حقّاً تحتاج إلى تأمل و تفكير وبيان, لأنّ هذا الفيلسوف المسيحي العربي .. بعد أن كتب (سبع مجلّدات) عن علي توقف عن الكتابة نهائياً و لم يكتب بعدها شيئ سوى ما يتعلق بأهل بيته(ع) و كأني به قد تشيّع من دون إعلان, حيث ختم كتاباته بآلقول:

[لم أجد مَنْ هو أهلٌ بعد عليّ (ع) للكتابة عنه, و لهذا عقرتُ قلميّ في أنْ أكتب لشخصٍ غيره].

بعد رحلة عشق طويله تلامس سنواتها العقود الاربع، و بعد انصهار بحثيّ ومنهجيّ وانسانيّ وحضاريّ وفكريّ و اخلاقيّ بأبرز الشخصيات الكونيّة على حدّ قوله يتحدث هنا و لاول مرة صاحب الملحمة الفكرية و الانسانية و التي جسّدَتْ الامام (علي بن ابي طالب) عليه السلام - في سبع مجلدات اثرت به و تأثر بها - فصار حديثه و جلّ بحثه و نقاشه و حوارته (عليّ) …

هو الكاتب و المفكر و الاديب و الفيلسوف اللبناني المسيحي (جورج سمعان جرداق) المولود في العام 1933 في قضاء مرجعيون جنوب لبنان صاحب موسوعه:

(عليّ صوت العدالة الانسانية) و (عليّ و حقوق الانسان) و (عليّ و الثورة الفرنسية) و (عليّ و سقراط) و (عليّ و القومية العربية..) و عناوين اخرى.

|في زيارة له في بيته المتواضع في بيروت بمنطقة الاشرفيّه، مطلعه على صحته سيّما و انه رجل قارب الثمانين من العمر؛ أجري معه هذا الحوار الصحفي ألتأريخيّ و الذي يعدّ الحوار الاول من نوعه في حياة المفكر الكبير (جورج جرداق) ..

حيث قال مُرحباً بآلزائرين:

[مرحبا.. مرحبا لكلّ من لفحتهُ شمس الحسين و رياح كربلاء .. مرحبا لمن لامسته ارض الطف .. و شرب من معين الفرات، مرحبا برائحة الثورة و فردوس الانتصار .. مرحبا بكل حسيني وسلام لكل زائر نهج الفكر في درب عاشوراء]! 

ترحيبهُ بنا كان كإنسانيته و روحه التي تتحدث بيقين المبصر المدرك في انّ [الحسين ابن علي كان الامام العادل العدل و صاحب الامر الشرعيّ في الخروج على المارق الفاسق يزيد ابن معاوية لعنة الله عليه]. 

و حين سؤالنا له عن أوجه الشبه بين (الحسين) و (عليّ) .. و لماذا اختار علياً في الكتابه و لم يختار (الحسين) عليه السلام ؟ قال:

[وجدت ان الحسين عليه السلام هو خط طبيعي لأبيه عليّ و اشرت الى ذلك و تحدثت عن فسق معاوية و جرمه كما عن ظلم يزيد و بطشه، و حين كتبت للتاريخ الانساني عن حضارة عليّ وجدت ان فيه تقاسيم ديانات كونية وربانيه فاخترته نموذجا لنجاح الثورة الفرنسية، و اخترته نموذجا للعدالة و حقوق الانسان، واخترته كذلك مشكاة للفلسفة والحكمة والاخلاق في علي و سقراط، وحين كتبت عليّ و القومية العربية كان رداً على مَنْ اتهموه او اتهموني بالشعوبيّه، و ضربت عن ذلك امثلة كثيره مفادها ان الالتقاء مع الاخر و هو ما حدث بيني وبين علي، وما يجب ان يحدث بين الآخرين وعلي يجب الا يكون ما هو معتمد على عرقية او فئوية او حزبيه او ايدلوجية ضيقه , بل ان العداله المتوفره في علي من عادات عربية أصيلة كحب الخير والمساعدة والنخوة والشهامة والكرم والرجولة والبطولة والفروسية والشجاعة والعدل والانصاف والثقافة والادب والفكر والعلم والدين اي الزهد ومخافة الله وما غير ذلك امور تدفعني في ان اتخذ من الامام عليّ عليه السلام ايقونة قومية عربية افتخر بل اتفاخر بها].

يحلق الأديب (جورج جرداق) في فضاءات عليّ عليه السلام، متحدثاً عن اسقاطات الشّخصية الاكثر قرباً الى منهجيته في التفكير بل الانسان الذي يعده حالة بشريّة محضة .. لا يجب ارخاء صفة الربوبية عليها فتذهب الى طريق مختلف و مغاير, فيقول:

[لقد كان عليّ بشر كسائر البشر، لكنّ قدرته على الخلق .. ايّ انتاج حالة وعي اممية من حقوق و مساواة و انصاف و عدل و عفو و تسامح جعلت منه انساناً كونياً في نظر البعض، ذلك لما كانت تصنعه قريش و طغاتها في الناس من حيف و ظلم و ازدراء آنذاك].

و أضاف جرداق:

[كان علي نموذجاً وهو يُؤسّس في دولته الى العدالة المحمدية, أ لَيسَ هو من قال؛ انّ (الفقر في الوطن غربة و المال في الغربة وطن)، و هو من يقول؛ (الناس صنفان: إما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) .. و هذا شي ذكره جبران خليل جبران و الذي تأثر في الامام عليّ عليه السلام حين قال ان النبي محمد كان يشبّهه بعيسى ابن مريم و هذا تشبيه ليس جسماني فحسب مع يقيني انّ نور علي لا يختلف عن نور الانبياء و الرسل , بل انني ارى في التشبيه ما نطق به يسوع حين كان يتمتم بعبارات استغفار وترحم لمن يعلقون له الصليب، امر حدث و علي حين ضربه الكافر ابن ملجم فقال الامير عليه السلام كلمته الشهيره آنذاك: (ان عشت فأمرهُ لي و ان مت فضربة بضربة)].

سالناه؛ (لماذا عليّ و الثورة الفرنسية..؟) فاجاب:

[بعد ان سوّق الغرب شرقنا و الشرقيين منا على انهم قتلة برابرة يفتك بعضهم ببعض، بل ان الناس فيهم اشبه بقطعان اغنام لهذا الحاكم او ذاك، وكان هذا الكلام عقب الثورة الفرنسيه.. ارتأيت ان اكتب شيئاً عن ذلك وطبعاً كنت قد قرأت علياً عليه السلام وعشته وتأثرت به فوجدته قد قام بثورات تلو الثورات ولم تكن ثوراته كالثورة الفرنسية وما حدث بها من إراقة دم ودمار.. ثورة علي كانت انسانية واجتماعية وفكرية وثقافية، وكان مفصلاً أساسياً بين جبهتين جبهة فسق وقتل وإلغاء واتجار بالبشر والعبيد وموت، وجبهة أخرى دين ورحمة وعدالة وانسانية وحرية وحياة , فكان لزاماً عليّ ان اسلط الضوء على جبهة (علي) وهي الانقى رغم انني مؤمن بأنها هي من أنارت لي الدرب والطريق..].

و عن اختياره سقراط نموذجاً للمقارنة بعلي دون افلاطون او ارسطو طاليس او آديوجين واخرين قال:

[كان سقراط استاذ هؤلاء الذين ذكرتم و عليّ كان استاذ عصره وجيله في الحكمة و الفلسفة بل استاذ الاجيال التي تعاقبت من بعده ولهذا كتبت علي والنهج ايّ نهج البلاغه].

و مما لا شك فيه ان الفيلسوف و الاديب اللبناني جورج جرداق يعيش حالة وحدوية كبيرة مع حركية الحياة التي أسس لها علي بن ابي طالب عليه السلام وديناميكية العمل الانساني في الامامة والولاية والخلافة والادارة والحقوق في السلم والحرب وفي التأسيس لمنهجية العيش المشترك واحتواء الآخر، وهنا تحدث جرداق عن توقفه بعد كتابه هذه الموسوعه الشهيره والتي بيع منها عشرات الآلاف كما تم ترجمتها للغات عدّة و طبعت لأكثر من اثني عشر طبعة، تحدث عن سرّ عدم الكتابه لشخصية اخرى غير علي عليه السلام قائلا:

[لقد عرض عليّ بعض الناس من دول الخليج العربي ومصر ان اكتب في عمر مثلاً واخرين.. لكنني رفضت ليس لأنني أرى ان عمرا سيئاً.. لكنني لم اجد من هو اهل بعد علي للكتابة، فعقرت قلمي في ان اكتب لشخص غيره].

و هنا و في حديثنا عن منهج علي وشخصية علي التربوية و الاجتماعية و الثورية, نجد ان الاديب المسيحي (جرداق) قد تأثر بالبعدين الزماني و المكاني لسلطة النّص و سحره في نهج البلاغة واضعاً إيّاه ضمن دساتير قلّ نظيرها في البعد الانساني أو الوضعي, و هو يتحدث هنا عن ممازجة أدبيّة رصينة واقعيّة مختصرة غير مبتذلة في نصوص و حكم و اقوال حفظ منها الكثير.

(جورج جرداق) الكاتب اللبناني الجنوبي الكبير يتحدّث عن (الحسين) و عن فكرة المقاومة لدى هذا الرجل الشجاع على حدّ قوله و يعرج إلى ذكر مفارقة في هذا الشأن فيقول:

[ان يزيد لعنة الله عليه كان حيوانا بمظهر انسان ولطالما تمنيت ان يكون قد انتحر قبل ذلك الفعل المشين ولعلني موقن انه انتحر بذلك، وما نشاهده اليوم من احياء لذكرى الثورة الحسينية والمسيرة الكربلائية والعاشورية، ما هو الا دليل عقلي وواقعي لانتصار الدم على السيف، فالحسين علّم الناس الحرية و زواره احراراً فيما يسلكون وهو حتماً طريق العدالة والشهادة].

ختم كلامه الكبير بجملة كبيرة كحياته التي كرس منها سنين طوال في البحث عن عليّ حتى وجد بعضاً منه في ذاته قائلا:

[كتبتُ عن (عليّ) و لطالما تمنيتُ زيارته و الالتحاق بركبه فهو منهجي و رَجُل الحرية و العدل و السلام].

و يقول:

[قد قُتل في محراب عبادته لشدّة عدله]!

من مقابلة خاصة مع جورج جورداق أجراه وفدٌ برئاسة أمين ناصر بتأريخ الثلاثاء 14 كانون الثاني 2014م: علماً أن الفيلسوف جورج جورداق أورد في الجزء الخامس من كتابه؛ (عليّ صوت العدالة الأنسانية) آراء مجموعة كبيرة من العلماء و المفكريين الغربيين, و الخير ما شهد به آلأعداءُ!

يأتي بجانب هذا المشروع الكبير آراء و كتابات الفيلسوف المسيحي الآخر (جبران خليل جبران) الذي قال كلاماً عجز عن قوله جميع مراجع و علماء الدين في النّجف ألأشرف بحقّ هذا الذي ننقص حقّهُ لو إعتبرناه إنساناً عادياً .. و تمنعنا الحقيقة من جعله بمصاف الأله جلّ شأنه, لنبقى في الوسط نُكرّر ما قاله الشاعر الأصفهانيّ:

ها علي بشرٌ .. كيف بشر؟

ربّه فيه تجلّى و ظهر!

و لا حول و لا قوة إلا بآلله العلي العظيم.

 

عزيز الخزرجي

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك