المَمَرُّ الإلزامِيّ


من الواضح عند العقلاء أننا في ميدان الحياة نواجه العديد من الأمور والمفترقات الحياتية والمَطبّات المعيشية وغيرها من تخاليج الاستحقاقات التي تطرأ علينا مع توالي الأيام وتقدم الأزمنة. ومن الواضح بمكان أنَّ هناك تفاوت في درجة أهمية الأمور والاستحقاقات المُستجدة، فبعضها مُهِمّ، والبعض الآخر يترواح بين الأكثر أهمية والأقل أهمية. ومن ضمن الأمور المهمة، نجد أموراً تكتسب أهميَّتَها من زاوِيَتَيْن: ذاتِيَّة وغَيْرِيَّة، فالأولى تعني أن الأمرَ بحد ذاته مهم، أي مهم في نفسه بصرف النظر عن باقي المسائل التي قد تتصل به بطريقة أو بأخرى. أما الثانية فَتُظهِر أن أهمية الأمر المعني تكمن في أنه مَمَرٌّ إلزامِيٌّ لموضوع آخر. وقد نجد مواضيعَ تمتلك الأهمِّيَتَيْن على حدٍّ سواء.

وهنا، لا بأس بضرب مثل حياتيّ بسيط حول هذه الفكرة.  فمثلاً، في الحقل العلمي عندنا في لبنان (طبعاً المعنى ينطبق في البلدان الأخرى أيضا)، نجد أن الطالب، ولكي يتمكن من الدخول الى الجامعة، عليه أن يكون حائزاً على شهادة البكالوريا - قسم ثاني –الرسمية. وعليه، إذا افترضنا أنه أجرى امتحان الدخول الى الجامعة قبل صدور نتائج امتحانات الثانوية الرسمية، ونجح - بتفوق ملحوظ وملفت - بل أنه نال المرتبة الأولى في دورته، وبعد فترة، وبعد صدور نتائج الامتحانات الرسمية المدرسية، تَبَيَّن أنه راسب ولم ينجح، فإنَّ الجامعة - قطعاً - لن تسجله لديها مع ما أَظْهَرَه من تفوق في امتحاناتها الدخولية، لعدم اجتيازه لشرط أساسي ونقطة جوهرية وهما الحصول على شهادة الثانوية الرسمية. فلهذه الأخيرة أهميتان، أهمية "ذاتية" بحيث أن حائزها يكون قد أنهى المرحلة الدراسية المدرسية وبات حاملاً لشهادة دراسية ذات مستوى معين، وأهمية "غَيْرِيَّة" لكونها مَمَرّاً إلزامياً للعبور الى المرحلة الدراسية التالية وهي المرحلة الجامعية.

والآن، دعونا نقفز الى أعظم عيد عرفه التاريخ، وأكبر مناسبة فَرَحِيَّة جاءت لِتُكمِل دينَنا الحنيف، ألا وهو عيد الله الأكبر، عيد الغدير الأغَرّ (١٨ ذي الحجة)، هذه المناسبة النورانية التي حملت في طيّاتِها أجمل نعمة أنعمها الله علينا على الإطلاق، وهي نعمة "الولاية" لأمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" (عليه السلام) وأبنائه الأئمة الميامين الأطهار (عليهم السلام)، هذه الولاية الإلهية المباركة هي من إحدى مصاديق الأمور التي تَتَّسِم بِنَوْعَيْ الأهمية على حد سواء، إلا أننا هنا نرتفع الى مستوى عالي من الكلام، حيث لم نعد نحوم في مسألة حياتِيَّة عابرة قد يخوضها البعض دون البعض الآخر، بل إننا في رِحاب مسألة عقائدية مفصلية تهم جميع المسلمين في دنياهم وآخرتهم، وسينتج عنها -  في نهاية المطاف - رابحين وخاسرين بحسب الموقف المُتَّخَذ من هذه المسألة البالغة الحساسية.

فَفيما يتعلق بالأهمية "الذاتية" لهذه النعمة، نعمة الولاية، فمن الواضح أنها ذو أهمية عظمى بحيث يمتثل العبد الى أمر الله تعالى بموالاة مَنْ أمرنا الله عز وجل بولايته واتباع أمره ونهيه، ومن المعلوم أن حادثة يوم الغدير قد رُوِيَت في مصادر أهل العامة فضلاً عن مصادرنا الروائية.

أما الجانب "الغَيْرِي" الذي يكمن في هذه النعمة، فنتبرَّك بالإضاءة عليه من خلال ما جاء في الخبر: "قال الامام زين العابدين (عليه السلام) لجماعة: أيّ البقاع أفضل ؟.. فقلنا : الله ورسوله وابن رسوله أعلم ، فقال : إنّ أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ، ولو أنّ رجلاً عمّر ما عمّر نوح في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، يصوم النهار ، ويقوم الليل في ذلك الموضع ، ثمّ لقي الله بغير ولايتنا ، لم ينفعه ذلك شيئاً ... (يُراجَع جواهر البحار)". إِذاً، توصيف الإمام واضح ودقيق ومُوَجَّه بشكل عميق دون أي التباس في البَيْن، فلو اختار أحدُهم أفضل بقاع الأرض، أي أنه حصَّل شرف المكان، وحوَّل دهرَه الى عبادة متصلة لا انقطاع لها ولا تَوَقُّف، واستمرّ بهذه الحالة أعواماً مديدة ليست متاحة في زماننا الحاضر، لن ينتفع بكل ذلك وسيذهب مجهودُه هباءً منثوراً طالما أنه لم يجتز "الحاجز الأساسي" ولم ينجح في "الامتحان الرسمي" ولم يمرّ ب"المَمَرّ الإلزاميّ" المتمثل بولايته لأهل البيت (عليهم السلام)، فستكون علامة الرسوب هي النتيجة الحتمية والأبدية له.

نبارك للأمة الإسلامية جمعاء ذكرى حلول عيد الله الأكبر، عيد الغدير الأغرّ (١٨ ذي الحجة)، سائلين المولى عز وجل أن يثبتنا على الولاية، ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وأن يجعلنا من الذين يُحسنون استغلال هذه النعمة المباركة وشكر هذا الفيض الإلهي العظيم، فقد جاء في الخبر "روي عن الإمام الجواد (عليه السلام): [نعمة لا تُشكر ، كسيئة لا تُغفر] . "موقع السراج"، فإياكم والغفلة عن هذا الكرم الرّبّانيّ الفريد، وحَذاري من أن تَسُدّوا هذا "المَمَرّ الإلزاميّ".          

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك