نواقيس عاشوراء

865 2015-11-05

قراءة في كتاب ( الحسين في الفكر المسيحي لانطوان بارا)                  

  (حازم محمد)

لما كانت قصة استشهاد الإمام الحسين وأهل بيته الأطهار في واقعة الطف الأليمة قبل أربعة عشر قرنا حدثا كونيا زلزلت مسامعه الشرق والغرب لكون الحسين حفيدا لآخر أنبياء السماء، وما على الأرض من هو أكرم منه وأكثر مروءة، لذا كان هذا الحدث مدارا للجدل والنقاش لا في العالم الإسلامي الذي ينتمي إليه الحسين بن علي بن أبي طالب، وإنما في كل أمصار الأرض وأقطارها ودياناتها ولا سيما منها تلك التي احتكت بالعالم الإسلامي، وكانت قريبة منه قربا جغرافيا أو روحيا أو فكريا.

ومن هذه الديانات الديانة المسيحية التي ينبري أحد أفرادها وهو المفكر اللبناني المشهور ( إنطوان بارا ) للإجابة عن سؤال طالما أقض مضجعه ودفعه للتفكير الدائم، وهو : هل سجل التاريخ البشري فاجعة أكثر إيلاما من فاجعة كربلاء؟ ومن هذا السؤال المحوري يبني هذا المفكر كتابه الموسوم (الحسين في الفكر المسيحي) الذي ينعته صاحبه بأنه أحبُّ كتبِه إلى نفسه كما جاء في الفصل الأول منه الذي كان عبارة عن مدخل وتقديم للكتاب تحدث فيه أكثر من شخص.

إن ثورة الحسين كما يراها بارا في مقدمة كتابه المطبوع أكثر من طبعة وقعت تحت أيدينا منها الطبعة الأولى التي تولاها قسم الإعلام التابع للعتبة الحسينيّة المقدسة عام 2012م، وقد تناوبت على الكتاب سبعة فصول مختلفة حجما ومساحة ومباحثا بما يصل إلى 462 صفحة هي عبارة عن : ( حكاية الحرية الموؤدة بسكين الظلم في كل زمان ومكان وُجد بها حاكم ظالم غشوم، لا يقيم وزنا لحرية إنسان، ولا يصون عهدا لقضيّة بشريّة) كما يصفها الكاتب المسيحي المنصف.

غير أن بارا لا يكتفي بتحليل المظلومية وحدها فحسب في قصة استشهاد الإمام وإنما ينطلق من منطلق آخر مفاده: إن ثورة الحسين هي جزء من شخصيته الإنسانيّة الفذة، وإن هذه الشخصيّة هي واجهة تلك الثورة لا العكس كما هو حاصل في أغلب الدراسات التي عالجت القضية الحسينيّة من منطلق كون ثورة الإمام هي الواجهة الحقيقية لثورته العملاقة ضد الظلم والطغيان.

وعند ذاك سيكون العنوان الذي يتخذه بارا لكتابه هذا محاولة لكشف عمق هذه الثورة وانسانيتها من وجهة نظر مسيحية (محايدة)، فالكاتب ليس من أهل الإسلام حتى يُقال عنه أنه استمال لعاطفته الجريحة ولا هو من المستشرقين الذين ينظرون إلى التاريخ الإسلامي كأية نظرة إلى أي مرحلة أخرى من مراحل هذا التاريخ الممتد لأكثر من أربعة عشر قرنا.

ويسجل انطوان بارا في مقدمة كتابه (ص26) ملاحظته عن تقصير الباحثين العرب والمسلمين خصوصا في التعرض لشخصية الامام الحسين وعزوفهم عن دراستها دراسة علمية وافية تميط اللثام عنها وتقدمها ناصعة نقية في هذا التاريخ الطويل. وذلك لكون شخصية الامام هي ( محيط واسع من المثل الادبية والاخلاق النبوية وثورته فضاء واسع من المعطيات الاخلاقية والعقائدية)

وينطلق بارا ذو الاعتقاد الراسخ بالتقاليد المسيحية من مسلّمة تؤكد عمق فهمه للتصورات الإسلامية عن الديانات الأخرى، فالإسلام كدين ( يؤمن بجميع الرسل والأنبياء الذين سبقوا الرسالة المحمديّة انطلاقا من مبدأ وحدة الدين مع تعدد الرسالات والرسل.... ص 45)

وكذلك الحال بالنسبة للمسيحية التي بشرت بمحمد الكريم رسولا، فهو (المؤيّد) بتعبير السيّد المسيح –عليه السلام- وهو المكتمل الإنسانية والخلق، وكان مثله حفيده وابن بنته الزهراء : (حسين مني وأنا من حسين) الذي وجد بعد استبداد الامويين مغتصبي السلطة أن لا مندوحة من احداث هزة توقظ النائم من أوهامه وتهتف بالمسلم : ( قم، لا ترض بالزيف، لا تستسلم، لا توافق على تدجين عقيدتك، لا تبع نفسك التي عمّرت بالإيمان لشيطان المطامع.... ص72).

وهكذا فثورة كربلاء حين قامت – بحسب انطوان بارا- فقد استمدّت عزيمتها من روحيّة الشريعة، وكانت تهدف إلى إعادة بثّ هذه الروحيّة في نفس كلّ مسلم من جديد، لا كما يظن البعض من المؤرخين التقليدين من قصيري النظر بأن الثورة مجرد صراع مصالح تاريخي على السلطة بين آل أمية وآل هاشم. 

ويدفع بارا حجج أولئك المؤرخين ودعواهم الباطلة، فالحسين لم يقم من أجل كرسي أو جاه أو سلطة، لأن منطلقاته لم تكن فردية أو زمنية بقدر ما كانت أهدافها ( تتعداه إلى الأعقاب والأجيال القادمة التي ستعرف كيف كان شكل الفداء دفاعا عن عقيدة سلمت لها متلألئة.... ص77).

ويواصل بارا في المبحث المعنون ( فداء الحسين في الفكر المسيحي) عرض آرائه متسائلا في مستهلّ بحثه هذا: هل نحصر استشهاد الحسين بأرض كربلاء حيث جرت الأحداث الدامية، وهل نخص بها أمة الإسلام من دون الأمم الأخرى؟ ويجيب كاتبنا بالتأسيس على حديث نبوي صحيح مفاده: ( إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا) فلفظة المؤمنين جاءت لتدل على شمول كل المؤمنين تحت أية راية انضووا وفي كل بقعة وجدوا، لا لتدل على ملة أو طائفة بعينها دون غيرها.

ويعقد بارا صلة يراها وثيقة بين فكرة الفداء المسيحية الأصل وفكرة الفداء والاستشهاد الحسينيّة، حيث أن هناك أكثر من وجه شبه بين السيد المسيح وبين الإمام الحسين الذي جسّد هذه الفكرة أروع تجسيد (ينظر ص 83).

وفي المبحث المعنون ثورة الوحي الالهي يفنّد بارا مزاعم المغرضين واشباه المتعلمين ممن رموا ثورة الحسين بالقصور وبالارتجال وسوى ذلك من الامور الاخرى فخروج الحسين لم يكن الا عزمة قلب كبير يبلغ به النصر الآجل بعد موته ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.. ينظر ص96، وعليه، فالحسين كان عالما بمقتله وواعيا بما سيحيق به، واقدامه على الشهادة انما كان من باب الطاعة وامتثالا للتكليف الموجه اليه من القدرة الالهية ومن المشيئة الالهية التي اشتملت على هذه الثورة فجعلت الامام امتدادا للنبي ابراهيم حين حطم اصنام قومه غير عابئ بالنمرود وبناره الموقدة، كما هو امتداد لموسى أيضا حين وقف امام فرعون صارخا بوجهه : انت ضال مضل ... ينظر ص 100 .

وفي المبحث ذي العنوان ( معجزات الشهادة الاجتماعيّة) يأخذ بارا على عاتقه مناقشة الأبعاد الاجتماعية للثورة المباركة التي أحدثت هزة مزلزلة في الضمير الجمعي للأمة وصار الشعار ( موت في عزّ خير من حياة في ذلّ) وهو الشعار الذي رفعه الإمام منارا يضيء الدروب والدهاليز التي أظلمت أيام حكم بني أميّة التي انطفأت فيها مشاعل الإسلام ومصابيحه النيرة.

 وهكذا فإن مسلم ما بعد الثورة كما يقول بارا : ( غدا صفحة بيضاء مفتوحة تنتظر من يخطّ عليها سطرا جديدا ص149). وهو مسلم اتخذ من الحسين قدوة ونموذجا في ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذلك حققت الثورة أهدافها الغيبيّة المرجوة في الإصلاح وفي ترميم العقيدة التي انتهكها الطغاة.

أما الإمام الحسين فقد عرف عنه رفضه للظلم وكرهه للطغيان فكثيرا ما كان يفضح أساليب معاوية وألاعيبه، وهنا يجيب بارا كل سائل قد يسأل: لم لمْ يخرج الحسين على معاوية بالقول: إن الحسين مع كونه كان يهيء للثورة إلا أنه احترم العقد المبرم بين معاوية وأخيه الحسن وحفظ المواثيق التي أنكرها معاوية وضربها عرض الحائط، وكانت بيعة يزيد بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير... ينظر ص200 وما بعدها.

 وفي الفصل المعنون ( الخروج والمقتل) ص222وما بعدها يعالج بارا الوقائع والأحداث التاريخية معالجة علمية هادئة منتهيا إلى أن جواب الإمام الحسين حين نزل الغاضريات لابن زياد الذي خاطبه جاهلا بحقيقته: ( قد كتب إلي أمير المؤمنين يزيد ألا أتوسد الوثير ولا أشبع من الخمير أو ألحقك باللطيف الخبير أو تنزل على حكمي وحكم يزيد، والسلام) يختزل كل أبعاد الصراع حين ألقى كتاب ابن مرجانة للأرض وهو يقول: لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق!

وفي الفصل الموسوم ( الجريرة والسقوط) يتناول بارا أثر ثورة الطف في التعجيل بسقوط الدولة الأموية الآثمة فـ ( مصرع الحسين هو الداء القاتل الذي سكن جثمان الدولة الأموية حتى قضى عليها ص275) كما يقول العقاد ويؤيده بذلك بارا مفندا المزاعم الأخرى العديدة التي ذهبت إلى أسباب زوال الأمويين كلّ مذهب متسائلا: إذا لم تكن جريرة قتل الحسين هي السبب الذي قوض الدولة الأموية فأي جريرة أخرى يمكن أن تتفاعل وتؤثر في المجتمعات الإسلامية فتُحدث كل هذه الثورات التي تلت تلك الثورة المباركة.

وفي (خفق الوجدان) وهو الفصل الخامس يناقش الكاتب سمو شهادة الإمام في ضوء علم الجمال فيرى أن شهيدا كالحسين (قمين بأن تستوحيه العقول والأفئدة إلهاما دواما ، امتدت أنوار قدسيته أجيالا وأعقابا وما زالت تمتد إلى ما وراء الأزل متممة حكمة الإله في سر اختياره وإبداعه ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره) ص 318)، ولذا كانت ثورة الإمام محط أنظار الشعراء والكتاب والمبدعين من زمن الحادثة وحتى يومنا هذا.

وفي الفصل ما قبل الأخير يعود بارا فيبسط القول في الأسباب التي دعت من الحسين شهيدا للمسيحية كما هو شهيد للإسلام مستنيرا بآراء الكثير من الكتاب العرب من المسلمين والمسيحيين الذين وصل الحد ببعضهم إلى نعت هذا الكتاب بأنه من أهم الكتب التي التفتت إلى مبدا الحوار بين أصحاب الديانات السماوية في العصر الحديث ، ينظر ص351 وما بعدها.

وهكذا يفعل في الفصل الأخير من الكتاب (محاكمة السرائر ) الذي يعرض فيه للآراء والحجج التي ساقها بعض الكُتّاب ممن ناوءوا المؤلف ورموه بأصناف التهم التي دحضها القضاء وأسقطها، وهو ما يؤكد أن تجربة بارا مع الحسين هي تجربة وجدانية فكرية قبل أن تكون تجربة من نوع آخر، لذلك يصفها في آخر صفحات كتابه بأنها (معاناة متوالية ممضة، لا يعرف مقدارها إلا من عاشها فعلا، لكنها عذبة المذاق خلال لحظات معايشاتها شفيفة الأثر بعد هجوعها في الذاكرة والوجدان..... ص 462...

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك