إشكالية ثروة النفط وتداعيات الديمقراطية في العراق


 

د. كمال البصري ، الاستاذ مضر سباهي – المعهد العراقي للاصلاح الاقتصادي

 

معلوم بوجود دور إيجابي للنفط والديمقراطية في تحقيق التقدم والرخاء، الا انهما يمكن ان يكونا مصدراً سلبياً ومادة للتقهقر والشقاء حينما يساء استخدامهما، او حينما تحجب حوافز الاستخدام الأنسب المتمثلة بمعايير الحكم الرشيد (بالشفافية والكفاءة والعمل بسيادة القانون). المعروف ان العوائد النفطية مال سهل الكسب وبغياب الشفافية يستخدم لأغراض بعيدة عن الجدوى الاقتصادية، والديمقراطية كآلية قد تستغل بعيدا عن فحواها المتجسد بالعقد الاجتماعي لتتحول الى محاصصة. تسعى هذه المقالة الى مناقشة الاستخدامات المشوهة للديمقراطية والنفط، وتستنج ان الاستخدام السيئ للثروة النفطية والديمقراطية يؤول الى تشوه هيكل الانتاج الاقتصادي وإفشال التجربة الديمقراطية. سنتناول اولاً تداعيات الديمقراطية، وثانياً اشكالية النفط.

تداعيات الديمقراطية:

واضح ان العراق حقق تقدماً مشهوداً في الممارسات الديمقراطية بالنسبة للمنطقة العربية، الا ان الممارسة الديمقراطية لم يصاحبها تطبيق لمبادىء العقد الاجتماعي المتمثل بتطبيق مفردات الحكم الرشيد، الامر الذي ادى الى ضعف الاداء الحكومي وعدم القدرة على تقديم الخدمات الضرورية للمواطنين رغم توفر الايرادات النقدية النفطية. ان استياء المواطنين خلق فرصة للفرقاء السياسيين ليركبوا موجة فشل الحكومة وتأطيرها تارة باطار عدم الكفاءة والفساد، وتارة اخرى باطار الطائفية. ازاء هذا الانقسام والفوضى السياسية فان توجه الحكومة لحل مشكلة الاستقرار السياسي بالمشاركة السياسية (المحاصصة) حل لا يؤدي الى وئام، بل يكرس لمزيد من الانقسام السياسي، وان الحل يكمن بالحرص على تطبيق مفردات الحكم الرشيد وهي ممارسة يتعاظم دورها ويتكامل بشكل ديناميكي مع تقدم مستوى التعليم والثقافة.

ان اهمية الديمقراطية لا تأتي من انها تضمن الحق في الممارسة السياسية للاغلبية بل لانها الاطار السليم لتنفيذ مضامين “العقد الاجتماعي”، بان تحترم الاغلبية الحاكمة حقوق الجميع على حدٍّ سواء.  فالديمقراطية كآلية لا تؤمن لوحدها تحقيق الثمار المادية ولا المعنوية للمواطنين دون اعتماد الشفافية والكفاءة والمشاركة وبالاستماع لآراء الآخرين وتحمل مسؤولية السياسات والقرارات المتخذة وتحقيق سيادة القانون.  نعم حقق العراق تقدماً ملموساً في تطبيق بعض الممارسات الديمقراطية المتمثلة بالاستفتاء على الدستور وبالانتخابات المتكررة على صعيد الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية وفي كثير من الممارسات المتمثلة بالحرية السياسية والحرية الفردية واعتماد اللامركزية … الخ. الا ان الممارسة الديمقراطية لم يصاحبها الوفاء للعقد الاجتماعي الملازم للآلية الديمقراطية والمتمثلة بمفردات الحكم الرشيد. إن عدم  الالتزام بالشفافية في الممارسات المختلفة وغيابها قد وضع المسؤول الحكومي موضع الريبة والشك والتهمة أمام أفراد الشعب والمنظمات المحلية والدولية، كما ان غياب الشفافية لا يشجع على خلق الحوافز للالتزام بالمفردات الاخرى للحكم الرشيد كالكفاءة وتطبيق القانون، وإن غياب الشفافية في القرارات أدى الى تجريد المواطن من دوره في متابعة نشاطات الحكومة والسعي لترشيدها ومراقبته، مما أدى الى إنتشار حالة سوء الظن والاتهامات التي قد تعدُّ بعضها كيدية.

من الامثلة على ضعف الشفافية “الموازنة الاتحادية”  التي تعتبر اهم ملف اقتصادي سياسي، حيث بلغ مقياس الشفافية للموازنة  لعام 2014 (4%)  بحسب دراسات منظمة شفافية الموازنات الدولية (IBP)، ان هذا الضعف يعود الى الالتزام باعداد ونشر الوثائق الخاصة باعداد وتنفيذ الموازنة بحسب التوقيتات والمعايير الدولية والتي نص عليها قانون الادارة المالية بصريح العبارة. لاشك ان الذي يحصل كل عام هو مخالفة قانونية من قبل وزارة المالية. فالموازنة تعد بطريقة يصعب على المواطن متابعة واستنطاق التخصيصات المالية اذ انها مبهمة ولا تؤشر الى مشروعات محددة ولا تعرف جدواها الاقتصادية ولا عن علاقتها بالستراتيجية الاقتصادية الوطنية. ان غياب الشفافية ادى الى الافراط في التخصيصات المالية على حساب جوانب اخرى ذات جدوى اقتصادية اكبر (كما الحال في استمرار تضخم حجم تخصيصات الاجور والمرتبات على حساب تخصيصات قطاع التعليم او الصحة والاسكان). بسبب غياب الشفافية أصبح من المتعذر جدا على المواطن ومنظمات المجتمع المدني القيام بمتابعة كفاءة استخدام المال العام او متابعة نشاطات الحكومة، لأن غياب المساءلة والرقابة السابقة واللاحقة الرسمية وشبه الرسمية بطبيعة الحال يعطي المسؤول الحكومي مساحة واسعة للتصرف بعيدا عن معايير الكفاءة في استخدام المال العام.

على اساس ما تقدم صُنف العراق بالادبيات الاقتصادية واحدا من اعجز الحكومات على الايفاء بواجباتها، كما بلغ تسلسل العراق وفقا لمؤشرات البنك الدولي الخاصة بتطبيق معايير الادارة الرشيدة اقل حتى من اقرانه الدول العربية (وحتى اقل من نيجيريا الدولة الغارقة بالفساد!). وقد ادت العوامل اعلاه الى ضعف ثقة المواطن بعدالة ومصداقية الاجراءات الحكومية، وركب بعض السياسيين موجة الفشل في تأطير الخلافات السياسية والشخصية باطار الطائفية.

يجدر ذكره هنا ان الحكومات المتعاقبة سعت الى امتصاص الخلافات السياسية بتوسيع رقعة المشاركة السياسية (المحاصصة)، ولا يخفى من ان تحقيق العدالة بالمشاركة السياسية لا يضمن تطور كفاءة الاداء كما بينت تجربة العراق ، وكما ان نتائج الدراسات السياسية لعدد من الدول الديمقراطية والتي فيها تعدد قومي او مذهبي تنص على ان المشاركة النسبية بالحكومة لا تمثل بحد ذاتها حلا مستقرا للتناقضات السياسية الكامنة الا عندما يكون هناك تطور في مؤشر التنمية البشرية كالتعليم والثقافة الذي يعدُّ ايضا عاملا مهما في الاسراع بتطبيق الادارة الرشيدة، راجع المصدر التالي:

ان المشاركة النسبية للكتل السياسية لا تؤدي بشكل طبيعي الى تطبيق قيم الديمقراطية المتمثلة بالسعي الى فرض مفردات الادارة الرشيدة، وبغياب هذه القيم لا يكون للمؤسسات المختلفة من دور فعال في تقديم الخدمات العامة، ولا يتوقف ذلك على وهن وعدم كفاءة القطاع العام بل ليشمل القطاع الخاص المحلي والاجنبي.

ان خير مثال على عدم فعالية المشاركة السياسية وحدها في تحقيق الاستقرار السياسي في العالم العربي هي تجربة لبنان التي لم توفر يوما من الاستقرار المنشود. كما في السودان لغرض حل مشكلة النزاع الدامي في جنوب السودان والذي كان السبب في كثير من المأسي الانسانية، أقدمت حكومة الرئيس السوداني “البشير” عام 2005  بتوقيع اتفاق يمثل تسوية سياسية تتجسد بمشاركة الخصوم السياسين من الاقليات القومية في ادارة الحكم، الا ان نتائج هذه المشاركة لم تحقق للسودان الاستقرار السياسي المنشود. ففي الادبيات السياسية تعتبر تجربة السودان تحديا لنظرية “المشاركة النسبية بالحكم” والتي تزعم ان هذه المشاركة تمثل امتصاصاً لزخم الصراع القومي او المذهبي، وتدعي النظرية ان المشاركة السياسية ستكون الاطار الضامن لتطبيق مفردات الادارة الرشيدة من ثم تقود الى تنمية بشرية عادلة للجميع واستقرار سياسي. تؤكد الادبيات السياسية والاقتصادية الى ان الادارة الرشيدة هي العامل الحاسم في تقدم ورخاء الشعوب، وعلى اساس ما تقدم فالمشاركة بالحكم في غياب الادارة الرشيدة تعني الفوضى، وحقيقة الأمر فإنه ليس هناك دليل على ان المشاركة النسبية بطبيعتها تقود الى بناء مؤسسات حكومية تتجسد بها مفردات الادارة والحكم الرشيد، بل تحقيق ذلك يعتمد على تطور التعليم (رفع مؤشرات التنمية البشرية) كما حصل في دول شرق اسيا (التي حققت المعجزة الاقتصادية). معلوم أن تلك الدول حققت التقدم الاقتصادي الهائل ليس بفضل المشاركة السياسية الواسعة او بفضل ثرواتها بل من خلال سياسة طموحة شملت التعليم وتطبيق مبادئ الحكم الرشيد.

باختصار شديد فإن حل الازمة السياسية القائمة ينحصر باختيار حكومة تكنوقراطية مستقلة، وبغير ذلك سوف تستمر الطعون والشكوك والخلافات الشخصية التي تعكر صفو وتآخي المواطنين وتلقي بظلالها الحالكة على الحالة العامة. الحقيقة مهما كانت مصداقية الحزب السياسي الحاكم فسيقف الخصوم السياسيون موقفا معاديا لممارساته. ان خصائص الحكومة المطلوبة لتحقيق الاستقرار السياسي هي: ان تكون حكومة غير متحزبة تتمتع بصفة الفريق الواحد وتتمتع بمهارات لإدارة الاقتصاد والمجتمع والأمن، وأن يكون لها برنامج عمل يستند على اسس وتجارب عالمية ( كتجربة كوريا، ماليزيا، وسنغافورة ) ويتم اقراره من قبل مجلس النواب إبتدءاً.

وهنا سؤال يطرح نفسه: هل ان خيار الديمقراطية كان يمثل طموح المرحلة الحالية، او هل إنَّ الديمقراطية تعدُّ عاملا ضروريا للتنمية؟ للجواب نقول إذا ما راجعنا تجارب ناجحة في التنمية كتجارب دول شرق اسيا نجد ان خيار الديمقراطية في العراق يمثل مرحلة متقدمة على واقعه (كمن يستبق الزمن بالزراعة في فصل الخريف بدلاً من الربيع). لقد شهدت تلك الدول أربع مراحل في التنمية، في البداية اليابان 1950، ثم عقب ذلك كوريا وتايوان، وسنغافورة، وهونكونك  1960،  وبالمرحلة الثالثة تايلند، اندونوسيا، ماليزيا، والفلبين من 1975  ، وفي المرحلة الرابعة الصين 1980.  لقد اعتمدت جميع هذه الدول على دور الدولة التي لم تكن تعتمد اليات الديمقراطية بل اعتمدت على قيادة سياسية لها رؤية وارادة واضحة وقوية للتغيير وجميع هذه الدول اعتمدت منهجية اقتصادية متقاربة تضمنت مايلي: اعتماد التعليم، وابعاد العامل السياسي عن التدخل في الادارة الاقتصادية، واعتماد سياسة الانتاج لدعم الصادرات (للحصول على العملة الاجنية). وبعبارة اخرى كان التركيز على ادارة الاقتصاد وتحقيق الرفاهية الاقتصادية كأولوية، ويبدوا ان القناعة السائدة عند تلك الدول هي ان اجواء الديمقراطية لا تخدم استقرارية السياسة الاقتصادية واستمراريتها بل قد تبطئ عملية الاصلاح الاقتصادي. بعبارة اخرى كانت الرغبة لمعالجة الفقر والحرمان ورفع مستوى المعيشة تمثل اولوية مرحلية على اعتبارات الديمقراطية، فاليابان وكوريا الجنوبية بداتا عملية التصنيع الاقتصادي تحت اجواء حكم عسكرية، هونكونك تحت حكم استعماري وسنغافور تحت حكم فردي وتايوان تحت احكام عرفية، واما اندونوسيا وتايلند فكان لهما نظام ديمقراطية ساهم في ابطأَ تقدمها الاقتصادي، واخيرا  الصين رغم انعدام الممارسات الديمقراطية فان نموها الاقتصادي هائل. يلاحظ انه ان دول شرق اسيا سعت لخيار الديمقراطية ( باستثناء الصين ) عندما تم التأسيس للتطور الاقتصادي وتحقيق مستوى مقبول بالتنمية ولكن كان لهذا الخيار تأثير سلبي على معدل النمو الاقتصادي ابتدأ.

مما تقدم نستطيع القول لا عجب ان تتأثر عملية التنمية الاقتصادية في العراق بحالة فوضى الديمقراطية، وعليه يمكن القول ان امال الشعوب تتحقق خلال توفر معايير الحكم الرشيد التي تضمن بطبيعتها التأسيس لدولة قوية بسيادة القانون وبادائها الاقتصادي.

إشكالية النفط وتبعاتها:

عموما إن النفط مادة اساسية لتعزيز الرخاء وتحقيق التقدم، الا ان هناك الكثير من الوقائع التي تؤكد انه مصدر للتقهقر والشقاء، في هذا القسم سنلاحظ ان العراق حضى بثروة النفط الا ان سوء استخدمها ادى الى خسارة العراق لاقتصاده، واصبح الى حدٍّ كبير يقتات على عوائد النفط وحدها، وبلغ الامر بعد انخفاض اسعار النفط باقل من 40$ ان اصبح العراق لا يستطيع ان يؤمن التخصيصات الرأسمالية الضرورية لاعمار مشاريع الخدمات العامة و لا يستطيع ان يفِ بدفع اجور العاملين. ان اشكالية النفط تأتي من غياب الحرص على الثروة لاغراض الاجيال القادمة وان الافراط باستخدامها لاغراض الاجيال الحالية بطريقة لا تضيف قيمة حقيقية للتنمية الاقتصادية كماهو الحال: برفع اجور العاملين الى مستوى اعلى من مستوى الانتاجية، والانفاق على مشاريع ليس لها جدوى اقتصادية، والتوسع في سياسة الدعم الاقتصادي، وانفاق ثروة الاجيال على ابواب صرف كتنظيف الطرق وتنظيف المجاري من قبل شركات تنظيف استقدمت من خارج العراق.

ان هذه الاشكالية تتسم بها اغلب الدول النفطية التي تفتقد مقومات الحكم الرشيد، وتتأتى الاشكالية من ان سعر البرميل الواحد في الغالب اعلى من تكاليف انتاجه، هذا التفاوت بين السعر وتكاليف الانتاج يحفز الحكومات على التعامل بعوائد النفط بطريقة مسرفة بالمقارنة فيما اذا كانت ايرادات الحكومة متأتية من الضرائب مثلا، بمعنى ان الحكومة تتعامل مع الدولار او الدينار الواحد بطريقة مختلفة تعتمد فيما اذا كان متأتيا من نفط او ضريبة. فقد وجد بالدراسات الاقصادية ان الدولار المقتطع من الضريبة على دخل الافراد يولد بطبيعة الحال حوافز نحو الاستخدام العقلاني غير المسرف خلافا لحالة الدولار المتأتي من بيع النفط الخام. هذا الاسراف يتزايد عندما لا تتوفر الشفافية في القرارات الحكومية (وهي الصفة الغالبة في معظم الدول النفطية) ذلك لان الحكام يجدون انفسهم امام مساحة واسعة للتصرف بالمال العام دون مراقبة ودون مساءلة كما هو الحال في اغلب الدول العربية الخليجية.  تتوضح عدم الشفافية بمقارنة مؤشر شفافية الموازنة العامة للدول والذي يتراوح بين 0 للدول التي تفتقد للشفافية و 100 للدول التي تنعم بالشفافية الكاملة، فمعدل قيمة المؤشر (عام 2009) للدول المصنفة بالدكتاتورية من غير النفطية 33.4% في حين ان نظيراتها من الدول النفطية %18.9، حاليا مؤشر الشفافية للموازنة في العراق 4% والسعودية يساوي %0).

من تداعيات الايرادات النفطية ان تلجأ الحكومات الى تبني سياسات اقتصادية عقيمة في اثارها متمثلة: بزيادة الرواتب والاجور بعيدا عن حسابات انتاجية العمل، وبالتوسع في خلق عمالة لاغراض غير انتاجية مما ينجم عنهما تضخم بالاسعار، وانتهاج سياسة دعم اقتصادي عشوائية محدثة تشوها في بنية الاقتصاد، والتوجه نحو انفاق غير منتج يهدف في جوهره الى ربط المواطن بالسلطة. اما سياسات الانفاق السياسية فتتمثل بالمنح والمساعدات وفتح دوائر خارجية دبلوماسية وثقافية لا تضيف قيمة حقيقية للاقتصاد ولا للمواطنين. اضافة الى ما تقدم  فان الدول المصدرة للنفط عادة ما يكون سعر صرف عملتها عاليا نسبيا مما يساهم في رفع اسعار صادراتها وضعف قدرتها التنافسية في السوق العالمية.  ونتيجة لكل ماتقدم  فان القطاع الخاص في هذه الدول يتمتع بوجود ضعيف و هامشي، ذلك لانه لا يتمتع بالدعم (كما هو الحال في القطاع العام) وهو يتركز في مجالات الانتاج غير الحقيقي (تجارية وخدمية). ان غياب الدور الحقيقي للقطاع الخاص يعني غياب الابداع وسرعة التكيُّف لاحتياجات السوق، وان تفرد القطاع العام بالانتاج وغياب منافسة القطاع الخاص يؤدي الى استمرار تردي كفاءة انتاج القطاع العام. الامر الذي يتطلب تدخل الحكومة وحماية القطاع العام من خلال الدعم المادي وسياسة الحماية الكمركية، وبالتالي فان الحكومة تعمل على حماية مؤسسات انتاجية خاملة على حساب المواطن الذي يجد حاله مضطرا لشراء السلع او الخدمات بسعر اعلى وبنوعية رديئة.

ان هذه التضحية كما تؤكدها التجربة العالمية لا تؤدي في الامد القصير ولا البعيد الى تحسن اداء وكفاءة انتاج القطاع العام، وان غياب دور القطاع الخاص يحول المواطنين الى كسبة وموظفين مأجورين للحكومة تابعين لتوجهات الحكومة، ومما لا شك فيه فإن ذلك يؤثر على استقلالية الفرد عن الحكومة ومن ثم يؤثر على اتساع عمل منظمات المجتمع المدني المستقلة. ان استمرار الحكومات في تلك السياقات يؤدي بالنهاية الى انقسام المواطنين الى فصيلين مختلفين من المنتفعين وغيرهم. اضف الى ما تقدم بسب محدودية فرص العمل التي يمكن ان يخلقها القطاع العام تسعى الحكومة الى خلق عمالة عن طريق تعزيز دور السلطة الامني من خلال زيادة عدد منتسبي الشرطة والجيش والاستفادة من الفائض النقدي في شراء السلاح والمعدات العسكرية. ان نمو القدرات العسكرية يشجع على معالجة الخلافات الداخلية والخارجية عسكريا، ومن ثم اجهاض اي بوادر للنمو والتطور. من جانب اخر فان اعتماد العوائد النفطية على سعر النفط بالسوق العالمية يعرِّض اقتصاديات تلك الدول الى موجات من المد والجزر والتي تنعكس من خلال التقلبات الحادة في الايرادت النفطية. اخيرا فان العوائد النفطية للدول عادة ما تستفيد منها المدن اكثر من الريف، وهذا ما يسبب حالة هجرة من الريف الى المدينة، ولا شك ان هذه الهجرة عادة ما تكون في فترة زمنية قصيرة ينجم عنها اختناقات حادة بسبب عدم كفاية الخدمات العامة بالنسبة الى كثافة الطلب والى مشكلات اجتماعية واقتصادية متعددة.  لا يكتفي تاثير هذا الحالة على مستوى الخدمات المتاحة بالمدينة ليتعدى الى ضعف مساهمة الريف في الانتاج الزراعي والحيواني وحصول تغيرات في خصوبة الارض والتي تؤدي الى خسائر جسيمة.  الحقيقة ان ما تقدم يمكن ان نجد له مصداقية في الاقتصاد العراقي وبالاخص خلال الحقبة الزمنية التي عقبت الحكم الجمهوري، ولا شك ان اثار هذه السياسات وطبيعتها لم تتغير جذرياً لحد الان بسبب التجاذبات السياسية القائمة والتي تنعكس على ضعف الارادة السياسية.

في عام 1950 شرعت الحكومة العراقية بالعهد الملكي قانون مجلس الإعمار وقد نص قانون المجلس ابتداءا على تخصيص إيرادات النِّفط كلها لمشاريع الإعمار، الا ان القانون غيَّر بتخفيضها الى (70%) مِن إيرادات النِّفط، على ان يذهب الباقي إلى الخزينة العامة لتسيير شؤون الدَّولة. لقد انفقت الموارد المالية انذاك لخدمة التنمية الاقتصادية (لحاضر ومستقبل الاجيال القادمة)، الا ان الامور قدر تغيرت جذريا في عهد الحكومات الجمهورية واصبحنا نستخدم الايرادات النفطية بشكل معكوس. من التجارب العالمية المتألقة التي ينبغي الاستفادة منها هي تجربة النرويج وهي دولة فتية بالنسبة لانتاج النفط ذلك ان انتاج النفط بدأ بعد 1969 ( في حين بدأ انتاج النفط في العراق 1927 ) ولكن سرعان ما شرعت بتأسيس صندوق عوائد الثروة النفطية الذي يهدف لضمان حقوق الاجيال الحالية والمستقبلية، وبموجب القانون الذي تم تأسيس الصندوق يُحرم استخدام عوائد النفط مباشرة، حيث تستثمر جميع الايرادات النفطية خارج النرويج في الشركات ذات الربحية الاعلى. لكن يسمح القانون باستخدام 4% من عوائد الاستثمارات لدخول ايرادات الموازنة العامة للانفاق على المشاريع العامة ذات الجدوى الاقتصادية. وان الحكمة من تشريع هذا القانون هو حماية الاقتصاد النرويجي من الاثار السلبية (اشكالية النفط) وبهذا بقي النرويج محافظا على اقتصاده المتنوع والذي ازدهر ازدهاراً كبيراً بعد اكتشاف النفط، حاليا معدل حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي في كل من النرويج  والعراق بالألف هو 97 $ و 6 $ على التوالي.

ان ما يحصل في العراق لا يمكن تبريره بالظروف الاستثنائية التي يمر بها العراق بالمرحلة الانتقالية الحالية، ونخشى ان تستمر هذه المرحلة لفترة اطول، اذ ان استمرارها يؤدي الى الامعان بتشوه الاقتصاد العراقي، والحقيقة ان الحالة سوف تستمر طالما الارادة السياسية للحكومة خاضعة لتوافقات الكتل السياسية التي لا تمتلك رؤيا واضحة للنهج الاقتصادي الجديد.  ان تجاوز الجوانب السلبية الملازمة للثروة النفطية يتطلب أولاً العمل على تطبيق مفردات الحكم الرشيد، وثانيا العمل على جعل عائدية موارد الثروة النفطية مباشرة للمواطنين بالقوة (بقوة الدستور) وبالفعل بعد اقتطاع الضرائب الضرورية لتمويل المشاريع الحكومية. ان تطبيق مفردات الحكم الرشيد: يتطلب تعميق الممارسات التي من شأنها الافصاح والشفافية في اتخاذ القرارات والسياسات القائمة، وفي تحديد إستراتيجية اقتصادية بعيدة المدى، وتوظيف الكفاءات ضمن معايير محددة. أما بخصوص عائدية الموارد النفطية  للمواطنين: تأتي هذه الاهمية من انها تجسيد لما ورد بالدستور وتمثل عودة للممارسات الطبيعية التي بموجبها تمول الحكومة نشاطاتها في انتاج للخدمات العامة من خلال الضرائب. ان هذه العودة تدفع المواطنين لمتابعة برامج الحكومة وتخلق درجة عالية من مسؤولية الحكومة في تحقيق الصالح العام. ويتعزز دور هذه السياسة اذا ما كان هذا التوزيع لموارد النفط وفق مبدأ المواطنة الصالحة والانتماء الاجتماعي للفرد (بمعنى يستثنى من يحكم القضاء بتطاوله على الحق العام او الغير).

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك