الزراعة ما زالت مصدر خير وتقدم الأمم


محمد رضا عباس 

هناك اعتقاد سائد بين الاقتصادين من ان هناك علاقة عكسية بين مشاركة القطاع الزراعي في الإنتاج المحلي والمستوى المعاشي للسكان. هذا الاعتقاد كان مصدره هو تقلص نسبة قيمة الإنتاج الزراعي في اجمالي الإنتاج المحلي للدول المتقدمة لحساب قطاع الصناعة والخدمات في جميع الدول المتقدمة. فلو لاحظنا الإنتاج المحلي الأمريكي على سبيل المثال لوجدنا ان حصة القطاع الزراعي هي الأقل في الإنتاج الإجمالي وكذلك في اليابان , دول أوربا الغربية , وبقية الدول المتجهة نحو التصنيع . هذه الظاهرة هي التي ساعدت المحللين الاقتصاديين على الاستنتاج من ان هناك علاقة عكسية بين ارتفاع الدخل الفردي للمواطن وحصة القطاع الزراعي في الإنتاج الوطني. أي كلما زاد دخل المواطن كلما قلت حصة الزراعة في الإنتاج الوطني. 

هناك تفسيرات كثيرة لهذه الظاهرة , تراجع حصة الزراعة في الإنتاج الوطني مع التقدم الاقتصادي , منها هو تحول المستهلك من الاستهلاك الزراعي الى المنتوجات الصناعية والخدمية كما زاد دخل الفرد . زيادة دخل المواطن قد يؤدي به الى زيادة طلبه على السفر , المواد الثقافية , و الرعاية الصحية. . التفسير الثاني هو ارتفاع أسعار الخدمات والمواد المصنعة مقارنة بأسعار المواد الزراعية. دخل طبيب اختصاصي في الساعة الواحدة قد يفوق دخل مزارع لمدة أسبوع كامل. التفسير الثالث هو ان الحاجة الى المواد المصنعة والخدمات أصبحت تفوق حاجة المواطن من المواد الغذائية. الانسان يحتاج الى ثلاث وجبات من الطعام في اليوم الواحد ولكن يحتاج بين فترات الوجبات الغذائية الى خدمات ومواد مصنعة متعددة. المواد الغذائية ربما لا تكلف العائلة من أربعة افراد أكثر من 20% من دخلها ولكن تحتاج الى أكثر من 400% من دخلها في حالة بناء دارا لها. التفسير الرابع هو ان القيمة المضافة في القطاع الزراعي قليلة قياسا الى القيمة المضافة في قطاع الصناعة او الخدمات. قد يأخذ ثلاث خطوات لتوصيل ما يحتاجه المواطن من المنتوجات الزراعية ولكن قد تتطلب أكثر من ستة خطوات لتوصيل المواد المصنعة الى المواطن. صناعة البدلة الرجالية تتطلب جز الصوف , تجميع الصوف , غزل وصبغ خيوط الصوف , عملية النسيج , تفصيل البدلات , بيعها بالجملة الى تجار المفرد , ثم بيعها الى المستهلك في محلات المفرد . لاحظ ان في كل مرحلة من مراحل التصنيع او الخزن تتحمل نسبة معينة من الأرباح. 

ولكن هل يجوز للأمم التخلي عن الإنتاج الزراعي لصالح قطاع الصناعة والخدمات؟ الجواب هو لا. الزراعة ما زالت مصدر خير وعطاء وقوة وتنمية في جميع اقتصاديات العالم على اختلاف ايدولوجياتها. لا يمكن ان يكون هناك تقدم وازدهار بدون القطاع الزراعي. جميع حضارات العالم نمت وترعرعت ليس في الصحاري وانما على ارض زراعية. في العصور القديمة كانت الزراعة هي المصدر الوحيد للبقاء والتطور. كان الفلاح يحتاج الى ملابس توقيه من الحرارة والبرودة , فظهرت صناعة الانسجة بكل أنواعها . وكان الفلاح في حاجة لنقل محاصيله من الريف الى المدينة , فظهرت العجلة لأول مرة في التاريخ البشري , وكان الفلاح يحتاج الى أدوات طبخ , فظهرت صناعة الحدادة , وكان الفلاح في حاجة الى اثاث بيتي , فظهرت صناعة الأثاث المنزلي. 

لم تتراجع أهمية القطاع الزراعي في العصر الحديث , بل زاد خطرها وأصبحت تماما كالسلاح في السياسة . عندما تختلف الولايات المتحدة الامريكية مع السيد بوتين , رئيس روسيا , سياسيا , لا تهدده بالقنبلة الذرية او الهيدروجينية , وانما بوقف صادرات القمح له . وعندما أراد بوتين التأثير على تركيا اقتصاديا , منع بلده من شراء المنتوجات الزراعية التركية . الزراعة , ما زالت أيضا المادة الأولية لكثير من الصناعات المحلية و مصدر مهم من مصادر العمل والدخل . الاخشاب تعتبر المادة الرئيسية في بناء المجمعات السكنية في الولايات المتحدة الامريكية وكندا وجزء من أوربا. انتاج اللحوم في الارجنتين و نيوزلندا مصدر مهم من مصادر الدخل لكلا البلدين , وكذلك انتاج الاوراد في هولندا . 

التقارير الدولية حول أسعار النفط في الاسواق العالمية لا تبشر بخير. اسعار النفط في المستقبل المنظور سوف لن تكون قريبة من أسعار 2013 , أي سوف لن يكون للعراق ميزانية متخمة مثل ميزانية عام 2013 , وانما سيكون هناك دخل من النفط قد لا يغطي رواتب الموظفين . سوق النفط ما زال يعاني من الإغراق ولا نعلم هل ان هذا الإغراق جاء بقصد او غير قصد , مخطط له ام لا , لان من العادة مع كل تعافي اقتصادي في الدول المتقدمة يكون هناك ارتفاع للطلب على النفط الخام وارتفاع في أسعاره , ولكن هذه المرة مع تعافي اقتصاديات البلدان المستوردة للطاقة , الا ان أسعار النفط لم تتعافى . بكلام اخر , الدول المصدرة للنفط ومنها العراق سوف لن تشاهد مرة أخرى طفرات في أسعار النفط مثل طفرات عام 2012 و2013 وان الخطط الانفجارية التي سوق لها السياسيون سوف لن ترجع مرة أخرى , الا بقدرة قادر .

ما العمل عراقيا؟ القادة الكبار هم انتاج القرارات الصعبة , وان امام قادة البلاد قرارات اقتصادية صعبة , ولاسيما وان الاقتصاد الوطني في حالة سبات لاكثر من عامين مع زيادة ملحوظة في عدد سكان العراق . بجانب تطوير قطاعه النفطي (التركيز على المنتوجات النفطية) , العراق بحاجة الى التركيز على قطاعه الزراعي ولعدة أسباب . أولا , وجود الأرض الصالحة للزراعة , وفرة المياه , و تعدد التضاريس . ثانيا , وجود الفلاح ذو الخبرة والتي تمتد الى اكثر من 6000 عام . ثالثا , وجود تنوع بيئي في العراق قادر على انتاج مختلف المحاصيل الزراعية . رابعا , وجود سوق كبير لهذه المحاصيل خاصة وان نفوس العراق تقارب الان 38 مليون نسمة . خامسا , قرب العراق من أسواق مهمة مثل دول الخليج , السعودية , تركيا , وايران . سادسا , ان عدد العاملين في الحقل الزراعي ما زال كبير وبذلك فان دعم القطاع الزراعي سوف يؤدي الى انخفاض شديد في نسبة العاطلين عن العمل . سابعا , التوسع في الإنتاج الزراعي سوف يحافظ على احتياطي العراق من العملات الصعبة . ثامنا , تطور القطاع الزراعي سوف يدعم الصناعات الوطنية ذات الاعتماد المباشر على الإنتاج الزراعي . تاسعا , تطور القطاع الزراعي سوف يؤدي الى دعم قطاعات اقتصادية أخرى مثل قطاع البناء , النقل , التخزين , الطاقة الكهربائية , الماء الصالح للشرب , وعشرات من المنتوجات الأخرى. عاشرا , ارتفاع الإنتاج الزراعي يؤدي الى رفع المستوى المعاشي للفلاح خاصة ولعموم الشعب العراقي .

العراق لا يمكنه منافسة الولايات المتحدة الامريكية في صناعة الطائرات المدنية والحربية , ولا يستطيع منافسة بريطانيا في صناعة السيارات , ولا فرنسا بصنع النبيذ , وسويسرا بصنع الاجبان والروس بالصناعات العسكرية , والبرازيل في انتاج القهوة . ولكن يستطيع العراق تطوير اقتصاده ونقله من اقتصاد معتمد 95% على الصادرات النفطية الى اقتصاد متنوع وذلك عن طريق التركيز على تطوير القطاع الزراعي والذي قد يخفض من اعتماد البلد على الصادرات النفطية ويصبح قوة اقتصادية في المنطقة يحسب له الف حساب و بدون عنتريات وصرف المليارات من الدولارات على التسليح والذي لم يجلب على العراق الا الاحزان والشقاء والتعاسة.

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك