رحلــة عـــباس بن حمزة

1202 2014-06-07

◄  قصة: كاظم سلمان

يا للروعة! شهق عباس بن حمزة وهو يمسح بعينيه المبهورتين منظر الصحراء المستلقية بلا انتهاء والشمس تنهمر عليها قبل الغروب.
     امض يا عباس! هتف بانفعال وهو يرخي يديه عن كوابح الدراجة لتنزلق عجلاتها على المنحدر. "هذا يومك الذي انتظرته ونسجت عليه الحكايات".
     كان الهواء التشريني القادم عبر الرمال الباردة يدفع شعره المجعّد إلى الوراء ويحفز في رأسه الصغير أحلامه البالونية. كان يبدو من فوق المرتفع الذي تقع عليه المدينة مثل منطاد صغير تدفعه الريح في مسار منحدر بلا انتهاء. لم يرغب عباس في كبح دراجته الهوائية. ولولا الصخور المتناثرة على الأرض لتركها تنزلق حتى دون أن يمسك بالمقود فرفع رجليه وهو يصرخ بنشوة هستيرية وتربع تاركا الدراجة تنحدر بتعجيل متسارع.
          عندما انتهى المنحدر انبسطت الأرض من تحته وأحس بنعومة الرمل تعيق العجلات. أدرك أنه بدأ يقود على بوابة  أحلامه الهائلة. هذه الأرض الذهبية البراقة التي طالما وقف على حافة مدينته وتطلع إليها مستحضرا كل ما قرأ عن الصحراء أو شاهد من أفلام عنها. كان يهزه سؤال واحد من بين مملكة النحل التي تعشش في رأسه: "كيف تبدو المدينة من قلب الصحراء؟". هذه المدينة العريقة الغامضة التي اختلفت الروايات في أصل تسميتها فكان أشهر ما قيل عنها أنها كانت نهرا فجف. ويقال إنها كانت ـ حتى وقت قريب بحساب التاريخ ـ مطلة على بحر واسع تصب فيه روافد كثيرة، ومن زاوية فيها فار تنور الطوفان وغمر العالم بأسره، وأن على إحدى حافاتها رست سفينة نوح، وأن في جوفها يرقد أبو البشر ونوح والنبيان هود وصالح وكثير من صحابة النبي محمد (ص) يفترشون جوف الأرض الممتدة بين قبتين ذهبيتين تقتبس إحداهما نورها من الإمام علي (ع) والأخرى من ابن أخيه مسلم بن عقيل (ع).
          تدريجيا أخذ شريط الأفكار يتباطأ مع توغل عباس بن حمزة في قلب الصحراء. نظر إلى الوراء فبدت المدينة مثل خرائب قلعة عملاقة متناثرة على  مرتفع عظيم. نظر إلى سفح المرتفع فكان بمقدوره أن يميز بوضوح الخطوط التي رسمتها طبقات الأرض تحت سطح المدينة. من هنا يمكنه أن يتخيل بوضوح أكبر شكلَ الأرض التي تحفر فيها أقبية القبور. تلك الأقبية الضاربة في الأعماق والمشتملة على صفوف من القبور متراكمة فوق بعضها. وبإمكانه أن يتخيل قرارات الآبار العمودية المحفورة في أقبية المنازل، وأجواف الأضرحة المقدسة للأنبياء والأولياء الذين وفدوا من مدن وقرى بعيدة وقطعوا صحارى ووديانا ليرقدوا في جوف هذه الأرض رقدتهم الأبدية ولتكون هذه البقعة من بلاد الله بوابتهم إلى القيامة.
     استمر عباس بن حمزة ينهب الرمال الباردة باندفاع طفولي وكأنه يلاحق الشمس قبل أن تغوص في الأفق لتنام في حجرتها التي لا يعرف مكانها حتى الجدات. "إيه يا عباس بن حمزة، ألا تحسب حساب العودة!؟ إن الشمس تبتلعها الرمال وأنت لازلت تندفع كالمجنون". لم يلتفت عباس لهذا النداء الذي ضجت به تلال المدينة من خلفه لأنه كان ينظر إلى قرص الشمس الموشك على الانطفاء في بحر الصحراء الهائل فيترآى قلب الصحراء يخفق ببطء كقلب حيوان أسطوري بحجم الأرض.
     قلب الصحراء... ماذا تقول يا عباس يا ابن حمزة؟ هل تريد أن تصل إلى قلب الصحراء؟ أي معتوه يحلم بهذا الحلم المجنون؟ أتريد أن تصل إلى قلب الصحراء على ظهر دراجة هوائية قد .... انفجر الإطار الخلفي واضطربت حركة الدراجة فترجل عباس وهو يلعن الدراجات الهوائية وصانعيها.  وقف برهة يقيس المسافة إلى كثيب رملي اختفت وراءه الشمس وظن أنه سيجد خلفه مضارب قبيلة بدوية، ولكنه التفت إلى الوراء ليرى المدينة وقد بدت كجزيرة صخرية وحيدة في الصحراء المترامية. كان كل شيء فيها يبدل جلده النهاري بثوب الغروب الرمادي إلا القبة الذهبية المنتصبة قريبا من الحافة المطلة على الصحراء فإنها تزداد تألقا كلما تكاثف الظلام وكأنها فنار يرسل الضوء إلى الملاحين فيبعث في نفوسهم الأمل المحاصر بالعواصف.
     قدر عباس أن ليس من الحكمة الاستمرار، وأن عليه أن يسارع في العودة قبل أن تذوب الأشياء في الظلام ويبتلع الليل كل العلامات البشرية. أدار عجلات دراجته وأقفل راجعا وهو يسترجع الشواخص التي مر بها في رحلته: هناك مدرسة ابتدائية مهجورة لاشك أنها الآن مأوى لقطاع الطرق والذئاب والضباع. وبعدها تأتي خرائب حمام قديم لازالت تنبعث منه روائح قذرة وإلى جانبه مدبغة قديمة لم يبق منها إلا بقايا جدران طابوقية متآكلة ومجاري المياه الآسنة التي احتفظت سنوات طويلة (ربما بلغت المئات) برائحة الجلود النتنة.
     كان عباس في سباق مع الغروب: إن لم أصل قبل الليل الحالك فلا أدري إن كنت سأصل إلى بيتي أم تحولني الوحوش المتربصة في أوجارها إلى رميم تبتلعه الرمال كما تبتلع قطرات المطر الأولى . مع تراكم الظلام أخذ الخوف يشتد في قلبه فالهواء من حوله أخذ يتحول إلى كتل هلامية من الأشباح تتخاطف أمام وجهه فيحس حفيفها، وتمر من بين أرجله وإبطيه. أصبح فريسة لقشعريرات متتالية يبعثها فيه تهامس الرمال وأشواك العاقول وقهقهات الجن الذي هب مع الظلام ليستعيد مملكته المستلبة.
     ما هذه الالتماعات!؟ همس عباس لنفسه محاذرا أن يصدر صوتا يستفزُّ الكائنات المتوحشة المتراقصة حوله. كان يحدق بفزع بنقطتي ضوء خضراوين لم تلبثا أن أصبحتا حقلا من العيون الملتمعة.
     "هل يعقل وجود هذا العدد المخيف من الذئاب!؟ رباه ليكن كابوساً! لأستيقظ في أية لحظة! الآن يا إلهي! الآن بحق هذه القبة الساطعة إلى الأبد!".
     كرر عباس هذا النداء مرات. وشيئاً فشيئاً أصبح بمقدوره أن يدعو بصوت مسموع طغى بالتدريج على صرير العجلة المثقوبة. ولم يلبث أن تشجع فرفع صوته إلى أعلى ما يمكن. كان يصرخ بالدعاء ويقذف من جوفه المذعور كلمات رجاء ملتهبة وكأنه يهدد الكائنات الليلية المفترسة. تباعدت العيون الجائعة ثم اختفت في كهف ما من كهوف الليل الفاغرة.
     "ربما استدارت من خلفي!" تلفت إلى الوراء مذعورا: إذا صح ما يقال إن الذئاب تخفي مخالبها عند الجري صوب الفريسة فإني لن أجد الفرصة الكافية حتى للتفكير بأهلي في اللحظات الأخيرة. ثم تنفس بعمق وصرخ: ولكن عيونها الفسفورية تفضحها! أحس أن عليه أن يستمر في الصياح فربما كانت تتحاشاه لأنه كان يصرخ فيها.
     وفي لحظة من لحظات الرعب الممزوج بالرجاء اصطدمت عجلة دراجته الأمامية بحائط صغير. أوشك أن يبكي من شدة الفرح: إنه جدار المدرسة! لم يبق أمامه إذن إلا خرائب المدبغة والحمام فيصير عند حافة السن الصخري الذي تنتصب عليه المدينة.
     بدا له أن آثار المدرسة هي الحد الفاصل للوحوش الصحراوية ولكنه سمع تهامساً بشرياً قريباً ينبثق من بين الخرائب. إنه من ذلك الهمس الذي لا يحتاج إلى بيان لكشف نية أصحابه. ثمة مجرمون وهاربون من العدالة، وثمة جريمة تحاك وضحية تستهدف، فيما بدأت بيوت المدينة تطفئ مصابيحها.
    يا إلهي! انتبه عباس بفزع وهو يتسلل من بين الخرائب ...لابد أن أهلي يبحثون عني الآن. كيف نسيت هذا الشيء!؟ ثم بدأ يتسلق المرتفع بعناء. وحين وصل بيوت الصفيح المنتشرة على جانبي الشارع الترابي الهابط من المدينة استدار منتشياً ونظر إلى البحر الأسود المترامي أمامه الذي بدا كقطعة قماش سوداء متجانسة، ولكنه استطاع أن يميز التماعات خضراء كانت تتجمع وتنتشر وكأنها تخطط لمهاجمة المدينة في ليلة من ليالي الشتاء العمياء.
     رفع عباس رأسه ونظر إلى القبة الذهبية وتناهى إليه دفء الضريح وحرارة الطائفين حوله، فأحس بألفة لذيذة. ثم نظر مرة أخرى إلى الصحراء الملتحفة بالليل، وأحس ببرودة الرمال الشديدة فشهق قائلاً: يا للهول!

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك