الاسلام والمدنية مقاربة ومقارنة موضوعية‎


 

(الإسلام أقوى دين على هضم جميع المدنيات) - برنادشو- يحاول البعض من منتحلي صفة المدنية وهواة ركوب الموجات في الآونة الاخيرة محاولة الترويج والتثقيف لفصل الدين عن الدولة ومحاولة اظهار الدين على أنه نقيض المدنية وعدوها اللدود ، وربما يتذرع بعض هؤلاء بفشل الاحزاب الاسلامية في ادارة مشروع الدولة والنهوض بمؤسساتها خلال السنوات الاخيرة في العراق وهي ذريعة لا تقل قبحاً عن دعواتهم تلك لأن الديمقراطية التي يتغنون بها هي التي أوصلت الاسلاميين الى كرسي السلطة في الاعوام السابقة .

هذه المحاولات ذات المنحى العلماني الشرقي المتشدد تم التسويق لها بصورة واسعة خلال الاحتجاجات والمظاهرات الجماهيرية المتكررة والتي تنطلق غالبا بصورة عفوية من الناس ولأسباب موضوعية تتلخص بالاحتجاج على سوء الخدمات العامة وحالة التخبط بالقوانين والتعليمات التي تصدر من خلال السلطات التشريعية والتنفيذية والتي تصب دائما في مصلحة المسؤولين ويكون ضحيتها المواطن العراقي حصراً .

وما ان تندلع شرارة للغضب الجماهيري حتى نجد بعض الجهات المرتبطة فعليا بالتيارات السياسية الحاكمة الاسلامية وغيرها بالإضافة الى بعض المجموعات المرتبطة بالسفارة الامريكية او قنصليتها في أربيل تسارع الى ركوب تلك الموجات الجماهيرية وتقوم بالالتفاف على مطالبها وتحويلها الى مطالب وشعارات تافهة تصب على في خانة تسقيط الاسلام والدعوة الى انهاء مظاهره السياسية والاجتماعية والثقافية ، وهذه الدعوات بالإضافة الى الجهات المسؤولة عنها معروفة برموزها ومؤسساتها الاعلامية حتى وأن حاولت التمويه وتغيير جلدها على أمل خداع الاخرين وتضليلهم .

المضحك المبكي في القصة التي تتكرر بين الحين والاخر من خلال معزوفة نشاز أصبحت العلامة الفارقة في حركة المضغوطين من الدين هي شعارتهم السوقية التافهة التي يحاولون تسويقها وتصديرها بشكل خبيث من خلال إقحام الجماهير واستغلال حركاتهم الاحتجاجية عبر اللافتات والتصريحات واللقاءات الاعلامية على بعض الفضائيات والصحف الامريكية التمويل والتي تدار من قبل أشخاص معروفين بتوجهاتهم الفاسدة والمفسدة للمجتمع العراقي .

ومن الغريب ان تلك الهجمة التي يقودها عدد من مدمني العربدة والتحلل الاخلاقي في نوادي الاتحادات والمؤسسات ومن بقايا الاحزاب اليسارية والقومية التي لها ماضٍ وتاريخ أسود على الساحة العراقية تستهدف الدين فقط ولا تتجرأ على استهداف الاحزاب الحاكمة او التنديد بممارساتها وادارتها لمؤسسات الدولة ذلك ربما لأن اغلب اولئك المعربدين يعملون ضمن أجندة سياسية شريكة في ادارة السلطة وبالتالي فأن استهدافها للدين هو الطريق غير المستقيم الذي اختارته لتصفية حسابتها مع شركائها الاسلاميين ، والملاحظ ان الكثير من الجهات والاشخاص المحسوبين قبل سنوات قريبة على الاحزاب والحركات والتيارات الاسلامية السياسية هم الاكثر تورطاً في الحملة المسعورة ضد الدين فيما يبدوا انه رد فعل على خروجهم من مولد تلك الاحزاب الحاكمة خالين الوفاض دون ان ينالوا نصيباً من الغنائم والمناصب والامتيازات المادية ، بل ان الكثير منهم سبق المشاركة في الانتخابات البرلمانية والمحلية في قوائم الاسلاميين وفشلوا في الحصول على ما يؤهلهم من أصوات للفوز بمقعد في البرلمان او مجالس المحافظات ليصبوا جام غضبهم على الاسلام بعد ذلك .

 مشروع فصل المدنية عن الاسلام هو محاولة جديدة بائسة تضاف الى سلسلة من المحاولات والاستراتيجيات المتجددة لوضع المطبات امام الاسلام للحيلولة دون أن يكون له الدور الرئيسي في حياة المجتمع الاسلامي ولعل أخطر تلك المشاريع هي اثارة الطائفية و دعم الجماعات التكفيرية الارهابية ، والمدنية كمصطلح استخدمه الباحثون احياناً للدلالة على المعنى المقابل للبداوة و العسكرة ، ثم أن مفهوم المدنية بالمنظور الاسلامي يتطابق كلياً مع المفهوم الغربي الذي يستند الى ان الدولة المدنية تتلخص مبادئها بالحفاظ على كل الافراد والجماعات في المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية ، وتقوم كذلك على ثقافة التسامح والمساواة في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين مع الحفاظ على حقوقهم من الانتهاك السياسي واحتكامها الى الدستور والقوانين في تعاملاتها ، وهذه الاسس التي وضعت من قبل منظري مصطلح الدولة المدنية الذي ظهر في بواكير النصف الثاني من القرن العشرين لا تختلف في معانيها عن الدستور الاسلامي المدني الذي خطته يراع الرسول الاكرم محمد (صلى الله عليه واله) والذي عرف بوثيقة المدينة ، هذا الدستور الاسلامي والوثيقة النبوية كان اول من نشرها في الاوساط الفكرية والثقافية والاكاديمية هو المستشرق الالماني (فلهاوزن) .

أن وثيقة المدينة التي تراوحت بنودها ما بين (47-53) كانت أول دستور عالمي حفل بتنظيم العلاقة بين مجتمعات الدولة الاسلامية في المدينة المتعددة الاديان والقوميات ، قوانين ذلك الدستور الاسلامي استطاعت ان تتحلى بالموضوعية لدرجة القبول والالتزام ببنودها من قبل المسلمين واليهود والمشركين وغيرهم على حد السواء ، وكفلت بنودها للجميع سيادة القانون وضمان الحقوق للجميع على أساس المواطنة في ابهى صور العدالة الانسانية التي لا زالت تفتقد الى اليوم لمقومات الحرية الحقيقية ، بل ان القوانين التي تحاول اليوم القوى الدولية المتغطرسة وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية هي قانون الغاب الذي يبرر لها ولغيرها استباحت الدول وقتل الالاف من البشر تحت عناوين وذرائع براقة كاذبة تتجلى بازدواجية التعامل بها وفق ما تتطلب مصالحها ومصالح شركائها الاوربيين واسرائيل وعملائها الحكام المستبدين في الشرق الاوسط .

الإسلام في قوانينه وتشريعاته التأسيسية وتوجيهاته الاساسية  لا يتناقض مع المدنية ولا يتعارض معها كما يوحي دعاة العلمنة المتطرفة لأنه استطاع من خلال الرسول الذي بعث به ، والرسالة التي أنزل بها من دك حصون وعقائد وقوانين الجاهلية التي كان يرزح تحتها المجتمع العربي والتي كان تحكمها الهمجية والتخلف والجهل ، وكانت حياة الغابة هي السائدة في المجتمعات العربية ، فالقتل العشوائي المتبادل وممارسة السلب والنهب ، وقتل البنات ووئدهن ، وارتكاب الفواحش وغيرها من الموبقات ، كل هذه القوانين والممارسات البهيمية استطاع الاسلام اقتلاعها واجتثاثها من حياة الناس ، واستطاع الاسلام ان يتحول الى دولة مترامية الاطراف بعد ان اكتسحت الامبراطوريات العظمى الفارسية والرومية وغيرها .

 ان الدعوات المبرمجة الشاذة من قبل بعض المؤسسات والاشخاص المتهتكين للفصل بين الدين والدولة المدنية هي بكل تأكيد دعوات إقصائية متطرفة غير بريئة وتحاول سلخ افراد المجتمع العراقي وخصوصا الشباب عن دينهم ونشر وبث الثقافة البهيمية لتدمير البنية الاخلاقية للمجتمع ، والرهانات على نجاح تلك الدعوات وتحقيق اهدافها هي رهانات خاسرة وميؤوس منها بمشيئة الله تعالى ، وما الحراك الشعبي الاخير عنا ببعيد حيث استطاعت التيارات الدينية سحب البساط من تحت دعاة التمرد الاخلاقي وناشطيهم في بغداد الذي سعوا لشهور في سبيل تحوير هدف وشعارات المتظاهرين ضد الفساد وظلم السياسيين ،  وبغضون ساعات قليلة تم ارباك حسابات ومخططات المتأمركين ومن يقف خلفهم من اللاهثين خلف سراب احلامهم وافلاس وافشال جميع مشاريعهم  المريضة .

ان قادة الاسلام بدءً من النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) والائمة المعصومين (عليهم السلام) والعلماء العاملين من مراجع دين ومفكرين يرفضون جميعاً ان يكون الدين وسيلة واداة للوصول الى السلطة لأنه آنذاك يكون وسيلة وليس غاية ، والتجربة العراقية برهنت على ان الاحزاب الاسلامية تخلت عن اسلاميتها منهجاً وسلوكاً بل وقفت امام اي محاولة لتصحيح القوانين المخالفة للإسلام حتى لو كانت تتعلق بالأحوال الشخصية للناس والقانون الجعفري وعرقلته أنموذج واضح لهذا المسلك السلطوي للأحزاب المتنفذة بالإضافة الى المناهج الدراسية التي لا زالت مملوءة بالأفكار المتطرفة قوميا وطائفيا وغيرها من الادلة التي تثبت ان الاسلام كان هو الضحية الرئيسية لحكم الاسلاميين ونزق وحقد العلمانيين المتطرفين . 

 

  احمد البديري

 

 

 

 *الاراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع الاعلام الدولي

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك