الشخصية الشريرة في المسرح الحسيني       

2282 2016-07-28

ظلّ الإبداع المسرحي فعلا خلاقا يرتكز إلى الواقع متجاوزا إيّاه وهادفا بالنتيجة إلى تحقيق غايات ومقاصد نبيلة تؤكد كون هذا الإبداع نشاطا إنسانيا يتطلع إلى تغيير المواقف والرؤى والقناعات إلى ما هو خير وحقّ وكمال إنساني.

وبما أن المسرحية جنس أدبي يعتمد فيما يعتمد من عناصر فنية على مجموعة شخصيات قد تكون ( خيّرة أو شريرة ) تتصارع وتتحاور لتعبر عن موقف ما؛ لذا  

من المعروف أن أساس النجاح في توظيف الشخصية الشريرة في المسرح عموما هو ان تجمع الشخصية المذكورة الى جانب كونها تعبيرا موفقا عن شخصية شريرة عالمية (أنموذجية) معالجة لمشكلة من مشكلاتنا المعاصرة او تعبيرا عن موقف ثقافي خاص تجاه مشكلة انسانية.

وربما كانت شخصية (الشيطان) هي إحدى الشخصيات النموذجية التي عرفها المسرح الإنساني في بواكيره الأولى وفي زمن ازدهار الكلاسيكية مذهبا أدبيا بأوربا في عصر النهضة، وقد كان للشيطان وجود واضح في التراث الديني السماوي وغير السماوي، فالشيطان هو المغوي والمحرّض للإنسان على فعل الشر في اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد تسرب هذا الوجود إلى التراث الشعبي – كما ترى الدكتورة نبيلة ابراهيم في كتابها اشكال التعبير في الادب الشعبي- من خلال بعض الحكايات الاسطورية التي تتناول مبدأي الخير والشر، فالأخيار كالقديسين والأولياء بسعيهم للخير والكمال ونبذهم للزيف والمال والجاه، وجهادهم لإعلاء كلمة الله وكلمة الوطن ستجد لهم الناس (بركة) في حياتهم أو عند قبورهم، أما الأشرار الذين يبيعون أرواحهم وأجسادهم للشيطان لقاء متع دنيوية زائلة فإن التاريخ الاسطوري سيترك لهم صورا بشعة تترسخ في أذهان الناس وتزداد بشاعة مع مرور الزمن.

ويمثل (فاوست) الذي باع نفسه للشيطان أنموذجا إنسانيا لشخصية الشرير في المسرح الكلاسيكي، وكان فاوست طالب علم متفوق في اللاهوت، لكنه نبذ اللاهوت وعكف على دراسة السحر والشعوذة فاستطاع استدعاء الشيطان في إحدى تعزيماته الخاصة مسخرا إياه لخدمته ولتحقيق مآربه الدنيئة والخبيثة، وقد وظفت شخصية فاوست في المسرح من قبل الأديب الألماني (لسنج 1729- 1781) وكان توظيف جوته لهذه الشخصية هو الأروع في المسرح العالمي، فقد تركت أثرها على المسرح الأوربي طويلا.

وقد كانت الشخصيات الشريرة التي عج بها المسرح الشكسبيري –على سبيل المثال- هي شخصيات تاريخية كمكبث في اندفاعه للقتل والشر من أجل اغتصاب العرش، كما وجدت الشخصيات الشريرة طريقها فيما بعد إلى المسرح البريختي ذي الطابع الملحمي من خلال تجسيده للشخصيات المستغلِّة (الرأسمالية) التي يهيمن على تفكيرها الجشع وحب المال واستغلال الضعفاء.

فيما عرفت الشخصية الشريرة في المسرح العربي الحديث ابتداء من مسرح النقاش 1847م وحتى يومنا هذا بتقليدها للنموذج الغربي وبإعادة بعث شخصيات الشر المعروفة في الحكايات الشعبية العربية وفي قصص ألف ليلة وليلة وسوى ذلك.

أما بالنسبة للمسرح الحسيني فمن المعروف إن هذا المسرح يرتكن إلى حادثة تاريخية وقعت في النصف الثاني من القرن الهجري الأول في أرض كربلاء بين قطبين متضادين ، قطب الخير (الحسين-عليه السلام- وأصحابه) وقطب الشر (يزيد وأعوانه)  وإن طبيعة الشخصيّات  التي ترد في الحادثة المشار إليها هي طبيعة تراعي قواعد المنطق والتاريخ ، أي أنّ شخصيّات الحادثة هي شخصيات معلومة  لها وجود واقعي عند قيامها بمجموعة أفعال وأحداث في زمن ماض معلوم أيضا، ولعلّ شخصيّة الإمام الحسين وبطولته الفذّة كانت مرتكزا تتمحور حوله الحركة والفكرة في هذه الحادثة من الناحية التاريخيّة والأدبيّة، دون أن ننسى أيضا، اشتمال الحادثة على وجود مجموعة شخصيّات أخرى ( رئيسية وثانويّة) مخلصة في عسكر الإمام، ولها معادل مطابق في الكون الواقعي، وعلى وجود شخصيّة (انقلابيّة) هي شخصية الحرّ الرياحي، فضلا عن وجود شخصيّات شريرة في معسكر يزيد هي -كذلك- شخصيّات رئيسة وثانويّة بحسب طبيعة الدور المناط بها من الناحية التاريخيّة، وبحسب قيمة الفعل والدور الذي قامت به أثناء الواقعة.

وبما أن الشخصيّة عند النقّاد والمهتمّين بالشأن الأدبي هي معيارٌ أساسي في تحديد نمط النص السردي من حيث الواقع والتخييل، فالتفريق بين النص الواقعي والتخييلي يستند إلى مسألة تفريد الشخصية، أي طريقة تمثيل شخصية ما بطريقة فنيّة، وهو ما يحاول أن يسعى المسرح الحسيني تنفيذه من خلال عديد النصوص المكتوبة في العصر الحديث.

وربّما كانت شخصية (الشمر بن ذي الجوشن) هي أبرز شخصيّات الشر في هذا المسرح على الإطلاق اعتمادا على قذارة الدور التاريخي الذي لعبه في هذه الحادثة ابتداء من نزول الإمام الحسين في أرض كربلاء وانتهاء برفقته المؤلمة والقاسية لآل البيت صوب الشام في رحلة السبي المعروفة.

وقد حاول مسرح التعزية (الشعبي) والمسرح المكتوب بصيغته الأدبية التركيز على كلّ ما هو منفر وقبيح ولا إنساني (شيطاني) في رسم هذه الشخصية بدءا بالملبس ذي الألوان الحمراء الفاقعة، مرورا بهيأة الوجه البشعة الخلقة المنفوشة الشعر، وبالصوت الخشن الأجش الذي يغلب عليه طابع التكبر والجبروت، وانتهاء بقسوة القلب التي لا تميز بين فارس في أرض المعركة وبين امرأة أسيرة أو طفل أضرّ به الظمأ في صيف لاهب، فالكلّ سواسية تحت سيفه وسوطه الذي لا يعرف الرحمة.

إن شخصية الشمر في المسرح الحسيني تجاوزت بعدها التاريخي والواقعي بكل تأكيد، ودخلت مجالا آخر شبيه بالمجال الذي دخلته شخصيّة (فاوست) في المسرح الكلاسيكي حين باعت هذه الشخصية نفسها للشيطان من أجل غاية زائفة وهدف دنيوي خبيث متناسية روابطها الإنسانية فتحولت بذلك إلى رمز من رموز الشرّ في الذاكرة الثقافية وفي المخيال الشعبي على حدّ سواء..........

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك