شهر الرحمة.. نظرة اجتماعية

1365 2016-07-03

في كل عام نستقبل شهر رمضان بنيّة الصيام وأمنية الإتمام بفضل الله وتيسيره وهدايته، وتبرز في هذه المناسبة مصاديق الايمان وعمل الخير والالتزام الديني والانساني والأخلاقي بصورة أبهى مما كانت عليه خلال أوقات السنة الأخرى، ويتخلل هذه الأجواء المفعمة بأحاسيس الصبر والقناعة والرضا بأمر الله تعالى آمالاً عريضة للمؤمنين، بإحقاق الحق وتحقيق العدالة والعيش الكريم وترسيخ مفاهيم الاسلام السمحاء وتصحيحها بعيداً عن انحرافات التطرف والتحلل والضَلال...

وفي جانب آخر تتعدد الاطروحات التي تتركز على غرس المفاهيم الاسلامية والإنسانية العامة وفق وسائل مختلفة تكون دينية تارة وثقافية تارة أخرى وتربوية وعلمية وغيرها...

أما ما يهمّنا في هذا الحيز المحدود فهو الجانب الاجتماعي الذي يتميز به شهر الرحمة والمغفرة، وفلسفة التربية الاجتماعية التي يتخللها هذا الشهر، وصدى هذا الأمر على ما يليه من أشهر السنة الأخرى وضرورة استثمار المزايا الروحية والايمانية التي يوفرها...

استثمار بلا حدود

في الحديث" ان الله عزَّوجل يعتق في آخر كل يوم من ايام رمضان عند الإفطار، ألف ألف رقبة من النار، فإذا كانت ليلة الجمعة ونهارها، اعتق الله في كل ساعة ألف ألف رقبة ممن قد استوجب العذاب، ويعتق في الليلة الاخيرة من الشهر ونهارها بعدد جميع من اعتق في الشهر كله. ومن هنا تبرز أهمية استثمار هذا الشهر الفضيل لأقصى ما يمكن من اجل الخير بخصوصه وعمومه.

ففي الخاص من خير شهر رمضان، ان الصوم يقدم لنا فوائد لاحصر لها من القيم المعنوية ذات التاثير المادي المباشر والطويل الامد في آن، على سبيل المثال ان الصوم يعدّل الغرائز ويقوي الإرداة ويلطف الروح.. لأنهُ مرتبطٌ ارتباطا مباشرا بخلجات النفس التي تعتمر فيها الغرائز من قبيل العاطفة وتناقضاتها من الأضداد، حيث تكمن فائدة الصوم المباشرة هنا في تعديل تلك الغرائز بما يقوّم المشوه منها ويقنن الفوضى التي شابتها خلال عام، كذا فإن الالتزام بمقومات الصوم سيفرض علينا الالتزام بمراقبة النفس خوفا من الإنزلاق في متاهات المكروهات بما يصيبنا بالغفلة عن مزاولة المستحبات..

من ناحية اخرى فإن الصوم في هذا الشهر الفضيل يشرعُ أمامنا أبواب التوبة التي هي بمثابة الإغتسال بماء النهر الذي يتطهر به الإنسان، فالأمر يشبه الى حد كبير، نهر ماء ينساب طاهرا أمامنا في حين قد أحاطت بنا أدران الذنوب وأوساخ الغفلة والشره والطمع والغيبة... كذلك فإن قوة الارادة وتهذيب النفس والتحكم بها خلال صيامنا يُمكّنُنا من توجيه التفكير قلباً وقالباً نحو العبادات والمستحبات وعمل الخير، وَقَطْع الطريق أمام الملذات الطائشة ونوابز النفس الأمّارة بالسوء من أن تُفسد صفاء الروح والذهن في شهر الرحمة والغفران..

أما في استثمار الشهر الفضيل في السعي نحو عموم الخير، فإن هناك العديد من القنوات التي يمكننا من خلالها المساهمة ولو بالنزر اليسير في كل ما ينطبق عليه صفة البر والتقوى وإحقاق الحق، وإن كان على أنفسنا..

والأمر بالمعروف والمناداة بإنصاف المظلومين وتحقيق العدالة وشمولها الجميع دون فرق او تمييز، هو من البر والتقوى. وفضح الباطل والدعوة لمحاسبة المُقصّرين والفاسدين وعزلهم عن المجتمع بر وتقوى، وتكثيف الجهود نحو إقامة مجتمع خال من النفاق والاستغلال أيضا من البر التقوى..

الأمسيات الرمضانية بوابة لتغذية الروح

كيف نجعل من الأوقات التي تتلو افطارنا في شهر رمضان بوابةً وواحة لتغذية الروح والجسد؟ 

هذا السؤال يجيب عليه الباحث الدكتور الشيخ عبدالله اليوسف مبيناً" حتى تكون الأمسيات الرمضانية بوابة وواحة لتغذية الروح والجسد يجب أن ندرك فلسفة الصيام، فقد أوجب الله سبحانه وتعالى فريضة الصيام على عباده لأهداف وغايات نبيلة ومفيدة ومهمة، فالصوم امتحان لالتزام العبد بما أمره الله تعالى، وبذلك تتجلى فلسفة طاعة العبد لمولاه، وبالصوم يهذب الإنسان روحه، وتسمو نفسه، ويبني إرادته، وينمي عقله، ويقوي جسمه، ويرتقي نحو عالم الكمال المعنوي والروحي، ويتجرد من شهواته ورغباته المادية البحتة.

و شهر رمضان موسم للعبادة، حيث أنه أفضل الشهور، ولياليه أفضل الليالي، وأيامه أفضل الأيام، وساعاته أفضل الساعات، والحسنات فيه مضاعفة، وأبواب الجنان فيه مفتحة، والأعمال فيه مقبولة، والدعاء فيه مستجاب.

فعندما يصوم الإنسان تصفو نفسه، ويزداد تقرباً من اللَّه عزّ وجلّ، مما يساعده على أداء العبادات بتجرد وإخلاص ولذة معنوية لا يجدها إلا في هذا الشهر المبارك.

إننا مدعوون في هذا الشهر الكريم إلى مضاعفة العبادات، والإكثار من المستحبات، وتلاوة القرآن الحكيم، وإحياء الليل بالدعاء والتهجد والصلاة، وفي النهار الامتناع عن كل ما يؤثر على الصوم من المفطرات المادية والمعنوية.

و رمضان شهر المغفرة، وعلينا الإكثار من الاستغفار والتوبة فيه، إذ لا يستطيع أي واحد منا أن يجزم بأنه لم يرتكب ذنوباً في حياته، فهذا الجزم لا يليق إلا بالمعصومين -سلام اللَّه عليهم أجمعين-، أما غيرهم فمعرضون في كل لحظة لارتكاب الذنوب والأخطاء.

ولا سبيل للخلاص من العقوبة المترتبة على اقتراف تلك الذنوب والمعاصي إلا بالاستغفار والتوبة إلى اللَّه توبة نصوحة.

وأفضل وقت للاستغفار من الذنوب هو شهر رمضان، حيث تتضاعف فيه المغفرة، وتقبل فيه التوبة، وتمحى فيه السيئات، وترفع فيه الدرجات.

أما عن بناء الجسم فقد أثبت العلم الحديث الكثير من الفوائد الصحية للصيام، ومع التقدم العلمي الهائل الذي يشهده علم الطب، يكتشف الأطباء يوماً بعد آخر فوائد جديدة للصوم، فيما أشار رسول الله صلى الله عليه وآله قبل قرون من الزمن إلى فوائد الصيام الصحية في مقولته البليغة: (صوموا تصحّوا).

 وكذلك قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: (الصيام أحد الصحتين). أي أن هنالك صحة نفسية وهنالك صحة بدنية-هذا على احتمال- وهنالك احتمال آخر في هذه الرواية أنه هنالك صحة تأتي من الطعام، ومن الاهتمام بالصحة وما شابه ذلك.. وهنالك صحة، تأتي من خلال كف النفس عن بعض المأكولات.. فكما أن الطعام يوجب القوة في بعض الحالات، فإن الشارع يرى أن الطريقة الصحيحة التي توجب القوة، هي الكف عن الطعام...

وجاء العلم الحديث ليؤكد ذلك، فالصوم -كما ثبت علمياً- يريح جميع الأجهزة والأنسجة والخلايا والغدد والأعصاب والأجزاء والأوردة والشرايين من الإنهاك والارتباك الحادثين بسبب الاستمرار في العمل المتواصل ليل ونهار وليس معنى ذلك أنها تقف عن العمل، بل معناه أنها تبطئ في العمل لتأخذ راحتها وتنفس عن متاعبها وبذلك يكون الصوم وقاية عن الضعف والاحتقان والتضخم والتخمة والامتلاء.

فيطول العمر، وينشط الجسم، ويستريح الإنسان من الترهل والكسل، ويبتعد عن الأمراض والأوجاع...

وشهر رمضان بمثابة مدرسة لتربية (الإرادة الإنسانية) فطوال ثلاثين يوماً يمتنع الإنسان-وبإرادته واختياره- عن الأكل والشرب، وعن القبائح والرذائل، وعن اللغو واللَّهو.. وهذه المدة الزمنية كافية لتربية الإرادة، وتقويتها، وشحذها بالقوة والصلابة.

وعندما تقوى إرادة الإنسان وعزيمته، يتحرر من عبودية الأهواء والشهوات والغرائز، فلا يخضع لشهوة جامحة، ولا يركع لغريزة طافحة، ولا يتنازل عن مبادئه وقيمه في سبيل مصالحه وأهوائه.

والصوم من أفضل الوسائل في بناء العقل وتنميته، لأنه ينمي (الصفاء العقلي) الذي هو مقدمة لاستيعاب حقول المعرفة والعلم، وهي بدورها تشكل الغذاء الأساسي للعقل.

وبالإضافة إلى أن الصوم يورث العلم والمعرفة والحكمة، فإنه يورث (يقظة عقلية) للكثير من الغافلين عن ذكر اللَّه، وعن الالتزام بأوامره، والاجتناب عن نواهيه، فيكون شهر رمضان بذلك بداية جديدة في حياة الكثير من الناس.

فرصة للانتصار على عاداتنا السيئة

أن فريضة الصوم التي فرضها الله سبحانه وتعالى على كل عباده وفي كل رسالاته من خلال الآية الشريفة من سورة البقرة الآية 183: (يا أيها الذين آمنوا  كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)... هذه الفريضة كانت تتنوع في مايلزم الله به عباده بين تعاليم  نبي وآخر، ولكن المسألة الأساسية فيه أن الله أراد للناس أن يصوموا حتى يستطيعوا من خلال الصوم أن يحصلوا على التقوى ليكون الصوم طاعةً لله في نفسه باعتباره امتثالا لأمر الله، وليكون طاعة لله من خلال أنه يحقق للإنسان روح التقوى وعقلية التقوى في فكره وفي حياته، وحتى يكون الأنسان المسلم  الذي يخاف الله ويراقب الله ويشعر بالله من خلال الصوم.

ويبيّن الكاتب عبد الهادي البابي، في مقال له ، أن الله سبحانه وتعالى أراد من خلال الصوم أن يحقق لنا معاني التقوى، التقوى التي هي العنوان الذي يريده الله للإنسان أن يعيشه في حياته، ليكون الإنسان التقي اجتماعيا وسياسياً وعسكرياً وفي جميع مجالات الحياة، لأن لكلِ شيءٍ تقواه، فللسياسة تقواها ولأدارة البلاد تقواها ولحالة السلم تقواها ولحالة الحرب تقواها ولكل مجالات الحياة في الأقتصاد والأجتماع لكلٍ منها تقوى..

ولهذا لابد أن نعيش هذا الصوم من خلال ما نتحرك فيه في حياتنا اليومية، وقد ورد أن الإنسان الذي يمارس الغيبة والكذب وأمثال ذلك لاصوم له، يعني أنه سيفقد معنى الصوم بممارسة هذه الأفعال خلال صومه لأنه يفقد روحية ومعنى الصوم.

من هنا، لابد أن نصوم صوماً جسدياً، ونصوم صوماً أخلاقياً، ونصوم صوماً فكرياً وروحياً وشعورياً في مشاعرنا..

وفي هذا الجو نتعلم من الصوم  دروساً للحياة، وأول هذه الدروس هو التمرد على العادات التي نعتادها في حياتنا، فلكلٍ منا في حياته عادة قد تكون عادة محلّلة وقد تكون محرمة،هناك عادات ننطلق بها في حياتنا الشخصية وهناك عادات ننطلق بها في حياتنا الأجتماعية،فعلينا أن نستفيد من الصوم وأن نتحرر من عبودية العادات،وأن لانكون عبيداً لعاداتنا، لأن الأستمرار عليها قد يسبب لنا الفشل على كل قدراتنا على المستوى الصحي والأجتماعي والشرعي في ذلك كله، ففي الصوم ينتصر الإنسان على عاداته يومياً.. 

ونحن في أجواء هذا الشهر المبارك الذي أفاض الله فيه روحيته علينا جميعاً وجعله شهره وجعلنا فيه ضيوفه ومن أهل كرامته، في هذا الجو الروحي لماذا لانجعل روحيتنا تفيض بالحب على علاقاتنا، ونعيد النظر في كل ماأنطلق فيه المستكبرون والضّالون المضّلون والفاسقون ليملؤا قلوبنا بالحقد بعضنا على بعض؟ لماذا نكون أدوات بيد الآخرين ممن لايريدون بنا إلاّ الشر ويكيدون لنا صباحاً ومساءً، فلنرجع إلى الله ، ولنجلس في حساب الله، ولنعرف أنفسنا، هل نحن سائرون على طريق النجاة الذي أراده الله لنا؟ وهل نحن في مستوى المسؤولية الشرعية والأخلاقية والوطنية الحقة في التصدي  لهذه المشاكل والأخطار المحدقة في بلادنا، والتي أتعبت شعبنا المكدوح منذ عقودٍ طويلة؟ 

 فالواجب الأخلاقي والوطني والشرعي يحتم علينا  أن ننفتح على الله سبحانه وتعالى  وأن نستفد من شهر رمضان المبارك، وأن نرجع إلى وعينا ونستغل هذه الفرصة التي وهبها الله لنا، وتفضّل سبحانه  بها علينا، من أجل أن نلّم الشمل ونوحد الكلمة  وأن نصلح بين الأخوة المؤمنين،على أساس العدل، وعلى أساس الحق، وعلى أساس الوطن للجميع، ونتمنى كذلك على الأخوة السياسين - أصحاب القرار -  كافة من قادة الكتل وأعضاء البرلمان والمسؤولين وأهل الحل والعقد أن يجعلوا من صومهم في هذا الشهر الكريم مناسبة روحية لإنكار الذات ولترك الخلافات وتذليل الصعوبات وتقديم التنازلات من أجل سلامة وطنهم وخدمة شعبهم الذي يستحق كل تضحية وعطاء وخير..

نوعية التغذية والكسل بعد الإفطار.. 

أخصائي التغذية الأستاذ رضي منصور العسيف، خصّ ملفنا هذا ببادرة منه توضح أهمية اتباع آلية تغذية صحية تضمن لنا نشاطا جيدا في فترة ما بعد الافطار والتي عادة ما يعاني الصائم فيها من الكسل والخمول وطلب الراحة..

فالكثير منا يصاب بالتعب و الخمول و الكسل بعد تناوله وجبة الإفطار في شهر رمضان، وربما يكون هذا الأمر طبيعياً بسبب انخفاض الإمداد الدموي لعضلاتنا وأعضائنا الحيوية المختلفة.

إلا أن المسألة قد تأخذ طابعا مزعجا بسبب آلية التغذية الخاطئة التي نمارسها خلال وجبة الإفطار، فالكثير منا قد يمارس إحدى الآليات الخاطئة التالية: 

1) تناول وجبة إفطار ثقيلة ودسمة، وهذه الوجبة هي السبب الأكثر شيوعًا وراء شعور أغلبنا بالخمول الشديد بعد الإفطار، ويرجع ذلك إلى أن هذه الوجبة الكبيرة تؤدي إلى امتلاء المعدة بطريقة سريعة تنعكس على صعوبة التنفس بسهولة.

2) امتلاء ما بعد الوجبات: هناك حالة تسمى امتلاء ما بعد الوجبات وتتسم بوجود خلل في تنظيم الجهاز الهضمي لمرور الطعام بداخله مما يؤدي لشعور مزعج بعسر الهضم مصحوب بخمول وكسل.

3 ) قد يؤدي تجاهل السوائل والمشروبات الصحية في الإفطار إلى عدم حصول الجسم على كفايته من السوائل التي تعوض حالة الجفاف التي تحدث أثناء الصيام خاصة في فصل الصيف، وهذا ينعكس على إحساس الجسم بالإرهاق والهبوط وانخفاض مستويات النشاط.

نصائح تقلل الشعور بالخمول بعد الإفطار في رمضان:

1) تجنب الوجبات الدسمة كبيرة الحجم على الإفطار.

 2) مضغ الطعام جيدًا قبل بلعه.

 3) عدم الإفطار أثناء مشاهدة التلفاز.

 4) تقسيم الإفطار لوجبتين صغيرتين يفصل بينهم 3 ساعات.

 5) تناول كميات كافية من السوائل على مدار فترة ما بعد الإفطار.

 6) الإكثار من الخضروات الورقية الغنية بالألياف الغذائية.

7 ) الاعتماد على النشويات مثل الأرز كمصدر للكربوهيدرات المركبة التي تمد الجسم بالطاقة.

8 ) تقليل المشروبات مرتفعة السكريات خاصة على المعدة الفارغة. 

9 ) تنويع مصادر البروتين بين اللحوم الغير دهنية والأسماك والبروتين النباتي.

10 ) عدم الإسراف في كميات الحلويات خلال فترة ما بعد الإفطار.

11 ) تقليل المشروبات المنبهة المحتوية على كافيين.

12 ) شرب كميات كافية من الماء أثناء الإفطار.

13 )  شرب كميات كافية من السوائل بشكل عام على مدار فترة ما بعد الإفطار.

14 ) ممارسة الرياضة بعد الإفطار بساعة وعدم النوم مباشرة، ذلك لأن النوم مباشرة يتسبب في تحويل الطعام الزائد عن حاجة الجسم إلى دهون.

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك