المعاني العلمية للتجلي والجلاء

1400 2016-07-19

يقول الإمام علي عليه السلام: (الحمد لله المعروف من غير رؤية) (1 ).

ويقول في خطبة أخرى: (لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته) ( 2).

ويقول عليه السلام في خطبة ثالثة في معنى كون الله جل وعلا جلياً دون تجلٍّ: (الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور ودلّت عليه أعلام الظهور وامتنع على عين البصير فلا عين من لم يره تنكره، ولا قلب من أثبته يبصره، سبق في العلو فلا شيء أعلى منه، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به) (3 ).

هذا التوجيه من لدن أمير المؤمنين عليه السلام يجعل التعرف إلى الله سبيلاً لا بد منه، في حين يمنع سبيل التعرف عليه، وهنا لا بد من التفريق بين التجلي والجلاء من وجهة نظر علمية صرفة.

الجلاء: (Consistent)

هو الوضوح، والوضوح هو نتيجة لتمام الإدراك، والإدراك هو انطباق السنة التكوينية للنفس مع السنة الكونية في موضوعها( 4).

والسنن التكوينية تبرز لنا في ثمانية أنماط للتعلم نرى النفس تمارسها في التعلم، أما السنن الكونية فتعرف في ثمانية بديهيات معروفة هي:

كون النفس الإنسانية تميل للحسن والجمال، وكون الرحمة ومظاهرها علة أُمّاً في كل حادث وكون الموت سنة لا بد منها، وكون الحق والعدل أساس كل خلق، وكون الإمامة معنى الحسن في كل خلق، وكون البلاء ناموس الخلق، وكون كل الموجودات مربوبة لله تعالى الواحد، وكون التطور للأحسن دافعاً لكل الموجودات.

أما أنماط التعلم التي تبرز في النفس محاكية لمواضيع السنن الكونية فهي:

- نمط التسليم، ويبدو في تسليم النفس بثوابت الأسماء مقابل معانيها في الواقع.

- ونمط التعليل، ويبرز في بحث النفس عن العلل والأسباب، فعلة مقابل كل حادث.

- ونمط التصديق، وهو واضح في بحث النفس عن العدل والحق، وهما مواقع الصدق الثابت في الواقع.

- ونمط القياس؛ وهو يتوضح دوماً في سعي النفس للمفاضلة بين الحسن والأحسن وبين القبيح والأقبح من خلال المطابقة لمعايير ثابتة من أصل ثوابت الأسماء لمعانيها وثوابت العلل لمعلولاتها بثوابت مواقع العدل والصدق في الواقع.

- ونمط التعميم، الذي يبرز في ميل النفس للتوحيد والتوحد، وكما هو واضح في واقع الناس اليوم وعلومهم.

- ونمط التكامل ويبرز في انجذاب النفس للحسن والأحسن والأجمل، وهو واضح عند الجميع بدون استثناء، ويكون أوضح في النفس الراقية في قيمها الإنسانية.

- ونمط الإيمان؛ ويبرز في ميل النفس للاستعداد لما بعد الموت الذي لا بد منه.

- ونمط التجريب، ويبرز في ميل النفس للتجريب والملاحظة والممارسة والتطبيق للقوانين المعروفة.

ونلاحظ بوضوح أن كل سنة تكوينية في نفس الإنسان، إنما تبرز بسبب التكوين الإنساني الذي يضم في خلقته كل مكونات الكون، وهي المادة والطاقة والحياة ومميزاتها والروح ومميزاتها الظاهرة للعقل.

فنمط التسليم في النفس وليد سنة الطاعة الكونية، حيث كل ما في الكون حادث مربوب لرب واحد مدبر حكيم قوي متين... له الصفات الحسنى؛ فكل ما في الكون طائع مسبح لله تعالى.

ونمط التعليل في النفس وليد سنة الرحمة الواسعة، حيث كل ما في الكون حادث معلول في حدوثه لمظاهر رحمة الله الواسعة في المحبة والألفة، والعاطفة الأبوية أو الود...

ونمط التصديق في النفس وليد سنة الحق والعدل الكونية، حيث كل ما في الكون بدأ بالحق ويقوم بالعدل ويستمر معهما.

ونمط القياس في النفس وليد سنة الإمامة الكونية، حيث كل ما في الكون له من ذاته لذاته إمام، ولا بد له من صنفه لصنفه إمام، يبدو به حسن تلك الذات أو ذلك الصنف، إذ بدون الإمام لا معنى جميل لخلق تلك الذات أو ذلك الصنف.

ونمط التجريب في النفس هو وليد سنة البلاء الكونية حيث كل ما في الكون هو بذاته بلاء ومبتلى بغيره في آن واحد.

ونمط التعميم في النفس وليد سنة التوحيد الكونية، حيث كل ما في الكون مترابط بوحدة الثوابت ووحدة الشروط، فهو مربوب لقوة واحدة هي قوة الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد.

ونمط الإيمان في النفس وليد سنة الموت الكونية التي لا يفلت منها كائن مادي أو حي أو عاقل لا في الأرض ولا في السموات.

ونمط التكامل في النفس وليد سنة التطور للأحسن، حيث كل ما في الكون يسير للأحسن وينجذب إليه ويسر ويبتهج لوجوده.

الجلاء والتجلي:

فالجلاء: إذن؛ هو الوضوح، وهو عند كل نفس يكون بمقدار مطابقة نسبتها التكوينية مع السنة الكونية الأم التي ولدتها، ما دامت تلك النفس ساعية إليها، لذا فالوضوح جزئي وكلي يبرز من تلك المطابقة وبقدرها، وعليه فإن كل معنى له حيز في نفس الإنسان قد يكون جزئياً وقد يكون كلياً طبقاً لمعاني الوضوح.

أما التجلي: فهو إحاطة الحواس الخمس بالموجود، أحداها أو كلها.. ولذا فإن التجلي غير ممكن إلا مع الشروط التالية:

1- كون الموجود في حدود قدرة الحاسة على الإحاطة به، ذلك لأن كل حاسة لها حدود، ولا يمكنها الإحساس بالموجود إلا من خلال تلك الحدود، فإذا كان الموجود خارج تلك الحدود فلا تجلي.

أمثلة ذلك: حدود البصر في حدود الضوء المرئي – Visible light الذي يقع بين (7500AO- 4000AO) انكلستروم لطول موجته، أما خارج هذه الحدود فلا رؤيا ولا تجلي لأي موجود للباصرة( 5).

أما حدود السمع؛ فتقع ما بين (20000-20) ذبذبة – ثانية فالأجسام المصوته أقل من هذه الحدود أو أكبر فلا تجلي لأي موجود منها للسامعة(6 ).

أما حاسة الذوق؛ فتعتمد على إمكان اللعاب في إذابة المادة المتذوقة إلى شوارد (أيونات) تؤثر على النهايات العصبية الحسية، وإلا فلا تجلي للذوق.

كذلك حدود الشم فتعتمد على إمكان المخاط من إذابة الغازات المحيطة به وإلا ففي حال الرشح يقل الشم أو ينعدم فلا تجلي.

ويبدو هنا أن حاستي السمع والبصر فيزياوتيان لاعتمادهما الضوء والصوت أما حاستا الذوق والشم، فكيمياويتان، لاعتمادهما في التفاعل في أوساط مائعة على نهايات العصب الحسي حيث يتم نقل حاصل التفاعلات إلى الفصوص الحسية في الدماغ حيث يتم بعدها التجلي.

أما حاسة اللمس، فحدودها تجاوز المحسوس في درجة حرارته، حرارة اللامسة وقدرته في تغير واقع بناء اللامس، وفيما عدا ذلك لا تجلي.

2- كون الحواس سليمة، فإن فقدت الحاسة، أو أصيبت بعلة فإن النفس تفقد إحدى نوافذها لتجلي الموجودات من حولها.. وفي حالة مرض الحاسة قد يحصل خلل في استجلاء الأشياء كمرض العين بالانحراف، الذي يفقدها تجلي الخطوط الطولية دون العرضية في المربعات.

3- أن يكون المتجلي حاضراً في وسط التجلي: حتى في فرض وقوع الموجود في حدود الحس للحاسة، وفي شرط سلامة الحاسة، فلا بد أن يقع المتجلي في وسط التجلي كي يحصل التجلي.

مثال ذلك لتجلي الموجود في الباصرة، لابد من الضوء المرئي؛ إذ مع الباصرة السليمة ووجود الشيء فإنه لا يمكن رؤيته في الظلام فلا تجلي.

مثال ذلك أيضاً: لتجلي الموجود المصوت في السامعة، لا بد من وجود الوسط الناقل كالهواء مثلاً ففي الفراغ لا يتجلى الجسم المصوت.

مثال ذلك أيضاً: لتجلي الموجودات المشمومة كالعطور أو المتذوقة لا بد من وجود السائل المؤين كاللعاب أو المخاط.

مثال ذلك أيضاً: لتجلي الموجودات ذات الطاقة الحركية أو الكامنة، أو الحرارية لا بد من وجود وسط ناقل، وإلا فلا تجلي للامسة.

4- أن تكون النفس منتبهة ومتوجهة للكائن الذي تطلب تجليه، فحتى إن توفرت كل شروط التجلي دون أن تكون النفس متوجهة ومنتبهة لما تريد فإنه لا تجلي.

فمثلاً؛ قد تدخل مكاناً ما وتخرج منه دون أن تنتبه لوجود شيء فلا يتجلى لك، بعكس ما لو كنت تبحث عن شيء وتقصده فأنت منتبه له، فإنه إن كان موجوداً تجلى لك.

5- ملاءمة البيئة والحدود والنظام لتجلي الموجود على حقيقته، فقد تخدع الحواس بالبيئة المصطنعة فلا يتم التجلي، وقد يكون للبيئة حدود تمنع تجلي الموجود مع وجوده بشروط التجلي.

وهذا ما نراه في مظاهر التمويه التي تبرزها بعض الكائنات في الطبيعة كحالة دفاع غريزية والذي يمنع غالباً من تجليها، أو نراه في ما يمارسه القانون الكوني في خفاء بعض الموجودات، كالحرارة الشديدة، أو الجاذبية الشديدة أو البرودة الشديدة، أو اللون الواحد (monocoulor) في حدود مسيطرة، والذي يبدو فيما يستعمله تجار الأقمشة في وضع مصابيح أحادية اللون في متاجرهم؛ حيث لا يتجلى اللون الحقيقي للقماش في اللون المسيطر الأحادي.

والآن فإن بين الجلاء والتجلي في معرفة الله تعالى معاني لا بد أن يدركها الإنسان ليعلم مقدار القبح الذي أغضب أمير المؤمنين عليه السلام في تطلع النفس لوصف الله تعالى وكأنها تراه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

1)  نهج البلاغة (محمد عبده) ج1 ص 158.

2) نهج البلاغة (محمد عبده) ج1 ص98 – 99.

3) نهج البلاغة (محمد عبده) ج1 ص98- 99. 

4) Mc Graw – Hiil “Encyclopedia Of Science And Technology V.12 P72) الكتاب المقرر في الفيزياء للصف التاسع الاعدادي/ سوريا (موضوع الصوت).

5) الكتاب المقرر في الفيزياء للصف التاسع الأعدادي (موضوع الصوت). 

6) نهج البلاغة (محمد عبده) الجزء الثاني ص: 99- 100. 

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك