موانع تجلي الله تعالى (موجبات عدم تجلي الله لخلقه)

2142 2016-07-27

إن من موانع تجلي الله تعالى ، وحدانيته الصمدية، ثم إحاطته وسعته سبحانه ثم هيمنته واستطالته، ثم استدامته وثباته، فالله سبحانه وتعالى جلي لا يتجلى لأنه كما يقول الإمام علي عليه السلام: (واحد لا بعدد).

الوحدانية:

تفرد الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، الجلية بوحدة خلقه، المتميزة بوحدة الثوابت والشروط النافذة في كون خلقه، المميزة بإدراك أن وحدانيته هي الوجود كله، وكل وحدانية دون وحدانية الله تعالى قلة؛ يقول الإمام علي عليه السلام في هذا المعنى:

(الحمد لله الذي لم يسبق له حالٌ حالاً فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً، كل مسمى بالوحدة غيره قليل... ).

ذلك معناه أن الواحد كما هو في نمط تعلمنا هو عكس نمط معرفة الله التي أشرنا إليها؛ في معرفتنا أن الواحد هو أقل العدد ومبتداه.. ومن كان واحداً منفرداً عن الشريك محروماً من المعين كان محتقراً لضعفه ساقطاً لقلته، أما الوحدانية لله تعالى فتعني:

أ- الصمدية: الامتناع على التجزئة والتركيب.

ب- الاستطالة: الهيمنة بالسلطان والقوة والعظمة.

ج- الثبات: لم يسبق له حالٌ حالاً – كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام.

4- الاستدامة: (الديمومة).

5- الإحاطة: الاحتواء الحكيم لكبره اللامحدود.

(سأل ذعلب اليماني أمير المؤمنين عليه السلام: هل رأيت ربك؟ فقال عليه السلام: أفأعبدُ ما لا أرى؟!.

فقال ذعلب: وكيف تراه؟!.

فقال عليه السلام: لا تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين، متكلم لا بروّية، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء، بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته وتجب القلوب من مخافته) ( 1).

قدمنا قول أمير المؤمنين عليه السلام هذا تقويماً لما سيأتي من بيان عن معاني التجلي والجلاء بما يوافق) لا تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان)، فهو جل وعلا جلي لا يتجلى.. من هنا نبدأ مسيرة البحث في موجبات عدم التجلي التي هي انعكاس لمعاني وحدانيته:

1- الوحدانية في الصمدية:

قال أمير المؤمنين عليه السلام:

(ما وحّده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا صمّده من أشار إليه وتوهمه) ( 2)... ومعنى (ولا صمده) من أشار إليه وتوهمه أي من تصوره على ذات هيئة عند الإشارة إليه، توهماً، إذ مع تصوره في تلك الهيئة، حيث أشار إليه، يكون قد ركبه أو جزأه، وهو ما يتنافى مع معاني الصمدية في الوحدانية التي تمتنع على التجزئة مثلما تمتنع على التركيب.

وهذا ما يتوضح في قوله عليه السلام في خطبة أخرى لبيان معاني التوحيد: (كمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده... ) ( 3).

ففي هذا الحديث توضيح لمعنى الإشارة في حديثه الأول عليه السلام، فالصمدية هي الامتناع على التعدد في التجزئة أو في التركيب على حد سواء.

هذا لأن أساس الإحساس أصلاً يعتمد التعدد والتغير، وحين لا تعدد ولا تغير في تركيب أو تجزئة فلا إحساس؛ كيف إذن يحيط الإحساس القاصر بالله تعالى الصمد!!.

من أجل البيان نأخذ الأمثلة التالية من واقع الأشياء في تجليها وعدمه مع أنها مادية، فالموجود بمقدار ما يكون مركباً يكون الإحساس به سهلاً، وكلما كان بسيطاً يكون الإحساس به صعباً.

مثال ذلك وجود القوة، فالقوة موجودة لا ينكرها أحد، إلا أن تجليها بذاتها صعب جداً، وإنما نحن نحسها من خلال أثرها في إزاحة الأشياء، ولولا الإزاحة فلا إحساس ولا تجلي للقوة بذاتها وإن وجدت، كأن تضغط على حائط دون إزاحته.

مثال آخر الحركة، فالحركة موجودة كطاقة لا ينكرها أحد، إلا أن تجليها بذاتها صعب جداً، وإنما نحن نحسها فقط من خلال الأجسام المتحركة، ولولا هذه الأجسام فلا إحساس ولا تجلي للحركة بذاتها وإن وجدت، كأن تضع جسماً على مرتفع، فإن فيه حركة كامنة لا تبدو إلا عند سقوطه.

فالقوة والحركة موجودان بسيطان، يمكن تجليهما للإحساس بذاتهما إنما من خلال آثارهما، فنحن لا ندرك الحركة إنما ندرك المتحرك، وكذا لا ندرك القوة بل نرى الإزاحة... فكيف بالواحد الصمد، كيف يمكن أن يتجلى؟! ونحن الذين يصعب علينا استجلاء الحركة بذاتها أو القوة بذاتها فكيف نطلب بأوهامنا تجلي خالق القوة ومبدع الحركة؟!.

إذن فنحن نستجلي بحواسنا الموجود البسيط بصعوبة، ومن خلال آثاره ندركه بعقولنا، وكلما كان في بساطة الموجود كمال ويقترب من الصمدية كلما كان الإحساس به صعباً ويقترب من الاستحالة، حتى إذا كان الصمد سبحانه كان تجليه للإحساس مستحيلاً، ولكنه يدرك بالعقول من خلال آثاره في خلقه، وتلك هي معرفة الله تعالى تبدأ من صمديته في تركيب كونه وأجزاء خلقه.

2- الوحدانية في الاستطالة: التفرد بالملك، والهيمنة بسلطان القوة والعظمة (سبحانه وتعالى):

يتجلى الموجود للحواس كلما كان صغيراً مقدوراً عليه محدوداً لا سلطان له؛ حيث هذه الصفات وغيرها من صفات التبعية تجعله متحركاً بسلطان غيره، مسخراً لقدرة من هو أقدر منه، فالإحساس كما قلنا هو أصلاً يعتمد التغير والتبدل.. أما إذا كان الموجود يتمتع بالاستطالة؛ أي أنه مهيمن بسلطان ما؛ فإن تجليه يكون صعباً بمقدار هيمنة سلطانه في وجوده.

مثال ذلك: استطالة النوم على النائم؛ فإن تجلي الحال للنائم أنه نائم صعب جداً، ولذلك تجده إن رأى في نومه مثلاً رؤيا مخيفة فإنه ينفعل ويخاف.. حتى إذا استيقظ وجد أن قلبه يخفق بشدة من الخوف وأن عرقه يتصبب، ولولا سلطان النوم عليه واستطالته على نفسه لتجلى له أنه مجرد حلم.

ومثال آخر: استطالة الرائحة أو العطر على حاسة الشم، فالشخص الذي يعيش في غرفة مثلاً لها رائحة مميزة فإنه إذا عايشها لمدة طويلة دون أن يخرج منها، فإنه لا يستجلي تلك الرائحة في حاسته مهما كانت قوية إلا أن يدخل عليه أحد فينبهه إليها أو أن يخرج هو ثم يعود للغرفة فيباشر التغير على حاسته فيحصل له التجلي.

ومثال ثالث: استطالة التقاليد والعادات على الإنسان قد تجعله يفعل أشياء لا يستجلي معانيها إلا إذا خرج من استطالة تلك العادات والتقاليد .

ومثال رابع: استطالة الحب، أو استطالة الغضب، تعمي العيون وتُصم الآذان وكل الحواس عن استجلاء الموجودات بما يناسب تلك الاستطالة، فلا يستجلي المحب أو الساخط شيئاً من الحقائق الموجودة حتى ليقول الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساوئا

فتجلي الموجود إذن رهن عدم استطالته، أما إذا كان له حظ من الاستطالة والهيمنة بسلطان ما على النفس، فإن حظه من عدم التجلي يساوي حظه من الاستطالة.. وهكذا كلما امتدت استطالته استحال على التجلي للحس.

على هذا فكيف إذن بالله سبحانه وتعالى المهيمن بالسلطان الذي لا يقهر!!

يقول الإمام علي عليه السلام: (كل شيء خاشع له وكل شيء قائم به) ( 4).

وبهذا يكون تجليه سبحانه وتعالى مستحيلاً، مثلما يكون جلاؤه أوضح من فلق الصبح، فسبحان (المتجلي لخلقه بخلقه والظاهر لقلوبهم بحجته) ( 5).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

   1) نهج البلاغة (محمد عبده) الجزء الثاني ص: 119.

   2) نهج البلاغة (محمد عبده) الجزء الأول ص- 15.

   3) نهج البلاغة (محمد عبده) الجزء الأول ص 209.

   4) نهج البلاعة (محمد عبده) الجزء الأول ص206.

   5) نهج البلاغة (محمد عبده) الجزء الأول ص186.  

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك