حجج واهية للمتبرّجات والرّد عليها..


 إنّ التي سمت روحها، وعلت همتها، تبادر إلى الاستجابة لأوامر الله، وتنتهي عن نواهيه قائلة: سمعنا وأطعنا... أما من استحوذت عليها الشياطين، فانكفأت في هوّة المعاصي، وأحاطت بها الظلمات، فإنها تأبى الامتثال لله، والانقياد لحكمه قائلة: سمعنا وعصينا... ولا تكتفي بذلك، بل تورد الحجة تلو الحجة ؛ لتبرر معاصيها وخطاياها، ولتضل غيرها من ضعيفات النفوس بتلك الحجج الشيطانية الخبيثة، ولتسكت أصوات الآمرين لها بالمعروف والناهين لها عن المنكر... يقول الله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثاني عطفه لتضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيمة عذاب الحريق * ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) ومن كلام سيدة النساء (ع) (خير للمرأة أن لا ترى الرجل ولا الرجل يراها) سورة الحج: 8 ـ 10. إن التبرج من كبائر المعاصي، والتي تجادل عنه تكون أئمة، فتكسب إلى جانب معصيتها الأصلية معصية أخرى هي الجدل الباطل في الله.

 وقد رأيت أن أسوق غالبية ما تقبح به المتبرجات، وهي حجج تختلف من متبرجة لأخرى، عسى أن يكون في ردّي عليها شعاع من النور لتلك السادرة في الغيّ، الغارقة في الظلمات، كما أرجو أن يكون في ردّي عليها قبس من المعرفة لتلك التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، عندما تصطدم بإحدى هذه الحجج ؛ لكي تتمكن من الرّد عليها وابطالها.

 

الحجة الأولى:

من تدعي أن طهارة القلب، وسلامة النية يغنيان عن الحجاب:

 إن التي تخرج عن تعاليم الإسلام، ثم تدّعي أن طهارة القلب وسلامة النية كافيان لرضاء الله عنها بغير حجاب ولا صوم ولا صلاة، أو غير ذلك من الأمور الشرعية التي لا يصح الإسلام إلا بتطبيقها ؛ تعتبر جاهلة، فكأنّ الله تعالى يوزع رحمته على الناس بمشيئتهم لا بمشيئته، أو أن الله العدل الذي حرّم الظلم على نفسه، وجعله محرّماً بين الناس، قد تخلى عن صفاته (حاش لله) فأعطى المقصر والمسيء كالمحسن العامل !... معاذ الله، ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا الذين يقولون إن الدار الآخرة خالصة لنا من دون الناس يوم القيامة !

 إن الحق جل شأنه قد بين في سورة الفاتحة التي تقرأ وتكرر كل يوم في كل صلاة بأنه: (ملك يوم الدين) بعد قوله (الرحمن الرحيم).

 إشارة إلى يوم الجزاء والحساب، الذي يتهرّب منه المقصّرون بزعمهم أن الله غفور رحيم. حقاً إنه غفور رحيم، ولكن للتائبين لا للمذنبين المعاندين، وإلا فما فائدة الجزاء والحساب؟ ولماذا خلقت الجنة والنار؟! يقول الله (عزّ وجلّ): (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) سورة الزلزلة: 7 ـ 8 ويقول جل شأنه:

 (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة والذين هم بأيتنا يؤمنون) سورة الأعراف: 156.

 ويقول تعالى: (إن رحمة الله قريب من المحسنين) سورة الأعراف: 56.

 فالرحمة إنما تنال بالعمل الصالح والتقوى والإحسان، وليس القلب قبراً يدفن فيه الإيمان، ولا يظهر على صاحبه آثاره.

 يقول محمد زكريا الكاندهلوى:

 يقول بعضهم: إن إصلاح القلب، وتزكية الروح، وتصفية الباطن هو الأصل في الدين، فإذا صفا القلب وطهر الباطن لا حاجة إلى إعفاء اللّحية (مثلاً) والتقيد بزي من الأزياء. وقولهم هذا فاسد يناقض بعضه بعضاً ؛ لأن القلب إذا صلح والباطن إذا طهر والروح إذا تزكى، لا محالة يكون السلوك وفق ما امر الله تعالى بشأنه، ولا محالة أن تخضع جوارحه للاستسلام، وتنقاد أعضاؤه لامتثال أوامر الله والاجتناب عن نواهيه، ولا يجتمع صفاء الباطن وطهارة القلب مع الإصرار على المعصية صغيرة كانت أو كبيرة.

 فمن قال إني أصلحت قلبي، وطهرت روحي، وصفّيت باطني، ومع ذلك يجتنب عما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو كاذب في قوله، تسلّط عليه الشيطان في شؤونه.

 وهل يعتقد هؤلاء أن الإثم شيء باطني فيرجعون الصلاح أو الفساد إلى القلب فقط؟! لقد بيّن رب العزة أن هناك آثاماً ظاهرة، وآثاماً باطنة، ويتبين ذلك من قوله تعالى: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) الأنعام: 120.

 وإن الإنسان الذي يدّعي أن إيمانه القلبي يكفي لرضاء الله عنه بلا تنفيذ لأوامره ؛ هو كإبليس اللعين، لأن إبليس كان مؤمناً بوجود الله، متيقناً أنه هو الذي خلقه، يقول تعالى: (وقلد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) الأعراف: 11، 12.

 وقد استقر في قلب إبليس أنه لا إله إلا الله، وآمن بيوم البعث والنشور (يوم القيامة) ولذلك دعا ربه أن لا يحاسبه وقت بداية عصيانه، بل يؤخره إلى يوم البعث كما أخبر الله تعالى عنه:

 (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبّر فيها فأخرج إنّك من الصاغرين * قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنّك من المنظرين) سورة الاعراف 13 ـ 15.

 ولكن ما السبب أن الله تعالى كتب عليه اللعنة، وحرّم عليه الجنة، ودمغه بالكفر؟ يبين الله تعالى السبب بقوله جلّ شأنه:

 (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فأخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدّين) سورة ص: 75 ـ 78.

 السبب أنه أبى الانقياد والامتثال لأمر الله ! فكل من أبى الانقياد والامتثال لأمر الله فهو كإبليس، وإن صدّق بوجود الله والبعث والنشور، ومن لم يمارس الإيمان عملاً وتطبيقاً واستجابة لأمر الله فهو من أصحاب إبليس ! فكيف أيتها المتبرجة ! تدّعين أن إيمانك يكفي لرضاء الله بينما ترفضين الانقياد لله الذي أمرك بعدم التبرج؟ فقال جل شأنه:

 (وقرن في بيوتكن ولا تبرّجن تبرّج الجاهليّة الأولى) سورة الأحزاب: 33.

 

الحجة الثانية:

من تدعي أن الصوم والصلاة يغنيان عن الحجاب:

 قد تدعي المتبرجة أنها تصوم، وتصلي، وتتصدق على الفقراء، وذات خلق حسن، وأن الحجاب مظهر من المظاهر الجوفاء ليست له أهمية ولا ضرورة.

 كيف بالله تعتقد ذلك بينما يعتبر الحجاب ونبذ التبرج فريضة من أهم ما فرضه الله تعالى على المرأة؟ إذ قرن النهي عن التبرج بالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله، وذلك في قوله تعالى:

 (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهليّة الأولى وأقمن الصلواة وأتين الزكوة وأطعن الله ورسوله) سورة الأحزاب: 33.

 وكيف بالله يمكن تمييز المسلمة المؤمنة عن غيرها من الفاسقات والمتبرجات والكافرات إلا بالحجاب الإسلامي؟ بل إن الالتزام بأداء الصلاة، والصيام، وغير ذلك مما أمر به الشرع من عبادات، وأركان يجب أن يلزمنا بفريضة الحجاب، فالله تعالى يقول:

 (إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) العنكبوت: 45.

 إن الصلاة تهذب الخلق، وتستر العورة، وتنهى صاحبها عن كل منكر وزور، فيستحي أن يراه الله في موضع نهاه عنه، تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وأي فحشاء ومنكر أكبر من خروج المرأة كاسية عارية مميلة مائلة ضالة مضلّة؟ ولو كان الحجاب مظهراً أجوف ؛ لما توعّد الله المتبرجات بالحرمان من الجنة، وعدم شم ريحها.

 إن الحجاب هو الذي يميز بين العفيفة الطائعة، والمتبرجة الفاسقة، ولو كان مظهراً أجوف ؛ لما استحق كل هذا العقاب لتاركته، بل والأحاديث والآيات القرآنية الحافلة بذكره، بل ولما ترتب على تركه فسق الشباب وتركهم للجهاد، وكيف يلتفت الشاب المسلم إلى واجبه المقدس وهو تائه الفكر، منشغل الضمير، مشتت الوجدان أقصى ما يطمح إليه نظرة من هذه، ولمسة من تلك؟!

 وإن حال التي تستجيب لبعض أوامر الله، وتترك بعضها هي حال من ذمهم الله تعالى بقوله:

 (افتؤمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عما تعملون) سورة البقرة: 85.

 ولتتذكر هذه قول الله تعالى:

 (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضللاً مبيناً) سورة الأحزاب: 36.

 

الحجة الثالثة:

من تدعي أن حبها لله ورسوله كفيلان برضاء الله عنها بدون عمل:

 إن رضاء الله تعالى على المرء يكمن في إتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وما هذه الحال التي وصلنا إليها بسبب أولئك الذين لا يعرفون من القرآن سوى رسمه، ومن الإسلام سوى اسمه، ويزعمون حب الله ورسوله فيقول قائلهم: «إن الله حبيبي ولن يعذبني بعمل أو بدون عمل».

 ومثل من يقول ذلك كمثل اليهود والنصارى الذين قال فيهم الله عزّوجل:

 (وقالت اليهود والنصرى نحن أبناء الله وأحبّاؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير) سورة المائدة: 18.

 ويقول تعالى:

 (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرسول فإن تولّوا فإنّ الله لا يحبّ الكفرين) آل عمران: 31، 32.

 ولله در القائل:

تعصي إلالـه وأنت تزعم حبه * هذا لعمـري فـي القيـاس بديع

لو كان حبك صـادقاً لأطعمته * إن المحب لمـن يحـب مطيـع

 يقول الشيخ محمد محمود الصواف:

 إن مجرد الانتساب إلى شيء من الأشياء، لا يحقق الأصل المرجو بالنفع من وراء ذلك الانتساب ؛ ما لم يدعم بالعمل بمقتضى ما يختمه عليك ذلك الأمر الذي انتسبت إليه، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:

 1 ـ لو انتسبت إلى دائرة ما، وعينت فيها ؛ فمتى تستحق أن تسمى موظفاً وتأخذ الراتب المخصص لك؟ أليس المطلوب، أن تباشر العمل فعلاً، ويكتب رئيس دائرتك تاريخ مباشرتك؟ ثم تستمر في الدوام والعمل إلى نهاية الشهر لتقبض الراتب؟ فإذا لم تباشر بالعمل الذي عينت له، ولم تداوم فهل تصبر الدائرة عليك؟ وهل تصرف لك راتباً؟

 الجواب: لا، بالطبع حتى ولو صدر أمر إداري بتعيينك ؛ فإن إلغاء الامر وفصلك من دائرتك من أيسر الأمور.

 2 ـ لو انتسبت إلى معهد أو مدرسة، أليس المطلوب منك أن تحضر الدروس، وتداوم بإنتظام وتعمل كل ما تأمرك به إدارة ذلك المعهد أو تلك المدرسة، فإذا عصيت أمر الإدارة، ولم تسمع لها قولاً، وخالفت قوانين وأنظمة المدرسة أو المعهد، فهل تبقى منتسباً إليه أم تفصل منه؟

 لا شك أنك تفصل، ولا ينفعك هذا الانتساب شيئاً.

 3 ـ لو انخرطت في سلك الجنديّة، وانتسبت إلى الجيش بصفة ضابط أو جندي، أليس المطلوب منك أن ترتدي البزة العسكرية؟ وتسمع وتطيع كل أمر يصدر إليك من آمريك بدون تباطؤ أو اعتراض؟ فإذا لم ترتد هذه البزة، أو ارتديتها ولكنك لم تقم بما يأمرك به آمروك، ولم تحافظ على الطاعة والنظام العسكري، بل تخالف كل ما يفرضه عليك واجب الانتساب إلى هذا المسلك الشريف، فهل ترى أنك ستبقى متمتعاً بنعم هذا الانتساب، أم أنك تفصل منه بأقل من لمح البصر، وتحرم من كل الحقوق التي كنت تتمتع بها؟

 أعتقد أنك ستحكم على نفسك بالفصل، إذ لم تبق أهلاً لهذا المسلك الكريم. وهكذا انتسابك إلى الإسلام: أنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً.

 أليس المطلوب منك أن تقوم بواجبات هذا الدين وتؤدي فرائضه وتقيم أركانه، وتحقق انتسابك إليه بالقيام بأهل ما يأمرك به ـ والذي هو العلامة الفارقة للمسلم كالبزة العسكرية للعسكري ـ ألا وهو الصلاة المكتوبة؟

 أليس المطلوب منك أن تسمع لأوامر القرآن الكريم المنزّلة من رب العزة والجبروت، وتعمل بها أمراً وأنت المنتسب إلى القرآن وأمة القرآن؟

 أليس المطلوب منك أن تهتدي بهدي نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وتسير على نوره وتطيع أوامره أمراً أمراً، إذ أمرك الله بطاعته، ووصاك باقتضاء آثاره؟ فإذا عصيت أمر ربك، وخالفت تعاليم نبيك، وجعلت القرآن وراءك ظهرياً، ونقضت عرى الإسلام عروة عروة، وآخر ما ينتقض منها الصلاة، والصلاة قد نقضتها أيضاً، وضربت بها عرض الحائط، فهل ترى بعد هذا أنك تستحق أن تسمى مسلماً؟ وهل ينفعك انتسابك المجرد شيئاً؟ وهل ستبقى منتسباً إلى الدين أم أنك ستجرد منه وتفصل عنه، ويكون بينك وبينه حواجز وحجب؟

 الجواب عندي وعندك؟ وفي حكم الشريعة الغراء واضح بيّن ومعروف.

 وأقول: تخيلوا أن يذهب الطالب، أو الموظف في الأمثلة السابقة إلى مدير المدرسة أو العمل فيقولان له: إننا نحبك أشد الحب، ونخلص لك، وللعمل في قلوبنا، التي هي بيضاء نقية من ناحيتكم، ولكننا لن نعمل ما تأمرنا... !!

 تخيلوا ماذا سيكون رد فعل مدير المدرسة أو العمل أو المجتمع؟! لا شك أنه سيتهمهم بالسفاهة، والجنون فضلاً عن فصلهم !

 فكيف ندعي حب الله ورسوله، وننتسب إلى الإسلام في البطاقات الشخصية، وشهادات الميلاد، وسائر الأوراق الرسمية، وتأبى إلا الإبتعاد عن شرع الله، ثم إدعاء محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فأي سفاهة أبلغ من ذلك؟!

 

الحجة الرابعة:

من تدّعي أن الحجاب تزمّت وتحتج بأن الدين يسر:

 حدث أن رأتني إحدى المتبرجات أرتدي الحجاب السائر لجميع الجسم على الصفة المأمور بها شرعاً في القرآن والسنة النبوية، فقالت لي:

 لم تضيقين على نفسك، وأنت في عهد الشباب؟ فأجبتها بأن هذا ليس تضييقاً على النفس، وإنني أجد الراحة الكاملة عند تطبيقي لأوامر الله ؛ لأن فيها الخير والصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة.

 فعادت تقول لي: خفّفي عن نفسك، فإن الدين يسر ! قالت الجملة الأخيرة بلهجة تحمل معاني شتى، وكأنها تقول: « لا تتحجبي »، معتقدة أن من يسر الدين التخلي عن الحجاب، أو عن بعض شروطه على الأقل.

 ولا شك أن هناك الكثيرات ممن يضعن عبارة « إن الدين يسر » في غير موضعها، فإليهن أقول: إن تعاليم الدين الإسلامي، وتكاليفه الشرعية جميعها يسر، لا عسر فيها، وكلها في متناول يد المسلم المكلف بها، وفي استطاعته تنفيذها، إلا ما كان من أصحاب الاعذار، فإن الله (عزّ وجلّ) قد جعل لهم أمراً خاصاً. يقول تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) سورة البقرة، 185.

 وإن يسر الدين لا يعني إلغاء أوامره، وإلا فما الفائدة من فرضيتها، وإنما تخفف لدى الضرورة فقط وبالكيفية التي رخّص لنا بها الله ورسوله، فمثلاً يجب على المصلي أن يصلي قائماً، ولكن إن لم يستطيع القيام فليصلّ قاعدا، فإن لم يستطع فبالكيفية التي يقدر عليها، كما أن الصائم يرخّص له الإفطار في رمضان إن كان مسافراً، أو مريضا، ولكن لابد من القضاء، أو الفدية في بعض الحالات، أو الفدية والقضاء في حالات أخرى، وكل ذلك من يسر الإسلام وسماحته، أما أن تترك الصلاة، أو الصوم، أو غيرهما من التكاليف الشرعية جملة واحدة ونقول: إن الدين يسر، وما جعل الله علينا في الدين من حرج، فإن ذلك لا يجوز، وبالمثل الحجاب ؛ فإن تركه لا يجوز، علماً بأن له رخصة كغيره من أوامر الشرع وهي أن الله تعالى وضع الجلباب عن القواعد من النساء، وحتى في هذه الحالة اشترط عليهن عدم التبرج.

 قال تعالى:

 (والقواعد من النساء التي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم) سورة النور: 60.

 وبالرغم من إعطائهن هذه الرخصة إلا أن الله تعالى بين أن عدم أخذهن بها خيّر لهن، وذلك في قوله تعالى:

 (وأن يستعففن خير لهن).

 وما ذلك كله إلا لأنه من الضروري والمهم جداً أن ترتدي المرأة المسلمة الجلباب الذي يغطي جسمها كله بدون استثناء، والذي سنبين مواصفاته فيما بعد، فكيف تبيع النساء لأنفسهن التبرج والتعري وترك الحجاب بحجج واهية؟

 وقد أدهشني بعد هذا كله أن تقول لي إحداهن: إن إرتداء الجلباب سنة وليس بفرض. تقصد (أن من ترتديه تكسب الثواب، ومن تمتنع عن ارتدائه لا تأثم أو تعاقب من قبل الله).

 وقد جهلت هذه أن الله أمر به، والأمر يستدعي الوجوب، وأن الأحاديث النبوية فرضته، كما أن التبرج يعتبر عكس التحجب، ومعلوم أن الأحاديث والآيات القرآنية حافلة بذمه واعتباره من كبائر الذنوب الموجبة لدخول النار، فهل بعد ذلك كله تجادل النساء في وجوبه وفرضيته؟!

 

الحجة الخامسة:

من تدّعي أن التبرج أمر عادي لا يلفت النظر:

 وهذه حجة عجيبة تدّعي قائلتها أن التبرج الذي تبدو به المرأة قاسية عارية لا يثير انتباه الرجال، بينما ينتبه الرجال عندما يرون امرأة متحجبة حجاباً كاملاً يستر جسدها كله بدون استثناء، بما في ذلك الوجه والكفين، فيريدون التعرف على شخصيتها ومتابعتها لأن كل ممنوع مرغوب !

 ولهذه أقول: مادام التبرج أمراً عادياً لا يلفت الأنظار، أو يستهوي القلوب، فلماذا تبرجت؟... ولمن تبرجت؟ ولماذا تحمّلت نفقات أدوات التجميل وأجرة الكوافر؟ ومتابعة الموضات أتت غيرك؟ حتى لقد حسب ما تستهلكه النساء بملايين الجنيهات من العملات الأجنبية سنوياً والتي أثرت على الإقتصاد، وميزانية الدول العربية.

 ولو كان كل ممنوع مرغوباً حقاً لرغب الناس في أكل لحم الميتة، والجيفة المنتنة، إذ أن ذلك مما يمنع الشرع من أكله.

 وكيف يكون كل ممنوع مرغوباً، وأنت تأكلين الخبز يومياً، ومع ذلك ترغبين في أكله دائماً ولا تخلو منه مائدة أو وجبة من الوجبات؟ لو كان كل ممنوع مرغوباً حقاً ؛ أو ما يعتاده الإنسان يزهد فيه لزهدنا في الخبز مثلاً.

 وكيف يكون التبرج أمراً عادياً ونحن نرى أن الأزواج (على سبيل المثال) تزداد رغبتهم في زوجاتهم كلما تزيّنّ وتجملن، كما تزداد الشهوة إلى الطعام كلما كان منسقاً، متنوعاً، جميلاً في ترتيبه، حتى ولو لم يكن لذيذ الطعم؟

 ولو كان التزين أمراً عادياً لما تنافس الناس في تزيين البيوت وزخرفتها وفرشها بأفخر المفروشات، وكل ذلك لتتمتع أنظارهم، ولما تكبد الناس مشاق السفر، وتكاليفه الباهظة في الرحلات إلى مختلف بلاد العالم، وكل ذلك للمتعة والتغيير، ويزداد سرورهم كلما شاهدوا في رحلاتهم مناظر جميلة وأشكالاً متنوعة.

 بل لو كان التبرج أمراً عادياً لما نهى الله عنه، لأن الله هو الذي خلق الإنسان، ويعلم ما يصلحه وما يفسده، ولولا أن الفساد الحاصل من التبرج كبير لما نهى الله عنه، ولما جعله الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من كبائر الذنوب.

 أما أن العيون تتابع المتحجبة السائرة لوجهها، ولا تتابع المتبرجة ؛ فلهذه أقول: إن المتحجبة تشبه كتاباً مغلفاً، لا تعلم محتوياته، وعدد صفحاته، وما يحمله من أفكار، فطالما كان الأمر كذلك، فإنه مهما نظرنا إلى غلاف الكتاب، ودققنا النظر، فإننا لن نفهم محتوياته، ولن نعرفها، بل ولن نتأثر بها، وبما تحمله من أفكار، وهكذا المتحجبة، غلافها حجابها، ومحتوياتها مجهولة بداخله، وإن الأنظار التي ترتفع إلى نورها لترتد حسيرة خاسئة، لم تظفر بشروى نقير ولا بأقل القليل !

 أما تلك المتبرجة ؛ فتشبه كتاباً مفتوحاً تتصفحه الأيدي، وتتداوله الأعين سطراً سطراً، وصفحة صفحة، وتتأثر بمحتوياته العقول، وتفسد النفوس لكونه كتاباً يحمل فكراً منحرفاً، فلا يترك حتى يكون قد فقد رونق أوراقه، فتثنت، أو حتى تمزق بعضها، إنه يصبح كتاباً قديماً لا يستحق أن يوضع في واجهة مكتبة بيت متواضعة، فما بالنا بواجهة مكتبة عظيمة؟!

 إن هذه المتبرجة كتاب منحرف لا يحمل علماً فاضلا، ولا فكرا مستقيما، وإنه وإن كان يعطي تأثيراً معيناً لدى ضعاف النفوس فإن هذا الكتاب، وأمثاله مصيرهم معروف لدى كل إنسان عاقل مهذب مستقيم تقول السيدة نعمت صدقي:

 «لقد غفل الناس وخادعوا أنفسهم، فزعموا أن التبرج قد أصبح أمراً عادياً مألوفاً، لا يؤثر في الأخلاق، ولا يثير دفائن الشهوات».

 كلا !... فإن الرجولة هي الرجولة، والأنوثة هي الانوثة، وإن الجاذبية بين الرجل والمرأة هي الجانبية الفطرية، لا تتغير ولن تتغير مدى الدهر، وهي شيء يجري في عروقهما، وينبه في كل من الجنسين ميوله وغرائزه الطبيعية، فإن الدم يحمل الإفرازات الهرمونية من الغدد الصمّاء المختلفة، فتؤثر على المخ والأعصاب، وغيرها من الأعضاء، وهذه قواعد فطرية طبيعية لم تتغير من يوم خلق الله الإنسان، ولن تتغير حتى تقوم الساعة، (ألم يك نطفة من مّني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوّى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى) سورة القيامة: 37 ـ 39.

 (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلاً) سورة فاطر: 43 (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) سورة الروم: 30 »

 وإليكم شهادة من طبيب يكذب الزعم القائل بأن التبرج أمر عادي:

 يقول الدكتور السيد الجميلي:

 « أودع الله الشبق الجنسي في النفس البشرية سراً من أسراره، وحكمة من روائع حكمه جلّ شأنه، وجعل الممارسة الحسية من أعظم ما نزع إليه العقل والنفس والروح، وهي مطلب روحي وحسي وبدني، ولو أن رجلاً مرت عليه امرأة حاسرة سافرة على جمال باهر، وحسن ظاهر، واستهواء بالغ، ولم يخف إليها، وينزع إلى جمالها، يحكم عليه الطب بأنه غير سوّي وتنقصه الرغبة الجنسية، ونقصان الرغبة الجنسية ـ في عرف الطب ـ مرض يستوجب العلاج والتداوي، ناهيكم عن انعدام الرغبة تماماً... وهذا بدوره مرض عضال ».

 أقول: هذه الشهادة من طبيب حجة على من يزعمون أن خروج المرأة كاسية عارية بدون حجاب لا يثير الشهوات ولا يحرك النفوس، واعتبروه أمراً عادياً، وكذبوا، فإن أعلى نسبة من الفجور، والإباحية، والشذوذ الجنسي، وضياع الأعراض، واختلاط الأنساب قد صاحبت خروج النساء متبرجات كاسيات عاريات، وتتناسب هذه النسبة تناسباً طردياً مع خروج النساء على تلك الصورة المتحللة من كل شرف وفضيلة، بل إننا نجد أعلى نسبة من الأمراض الجنسية، ومنها: مرض الإيدز القاتل الذي انتشر حديثاً في الدول الإباحية التي تزداد فيها حرية المرأة تفلتاً، وتتجاوز ذلك إلى أن تصبح همجية وفوضى ! ناهيك عن الأمراض والعقد النفسية التي تلجئ الشباب للانتحار بأعلى النسب في أكثر بلاد العالم تحللاً من الأخلاق، وأعظمها إباحية وفوضى كالسويد، وغيرها من دول الغرب !

 يقول أحد الشخصيّات الإسلامية:

 « إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار، فعمليات (الاستثارة) المستمرة تنتهي إلى شعار شهواني، لا ينطفئ ولا يرتوي، والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري، كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون.

 ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين، والاطلاع على مواطن الفتنة المخبوئة... شاع أن كل هذا (تنفيس) وترويح، ووقاية من الكتب، ومن العقد النفسية... شاع هذا على أثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه عن الحيوان، والرجوع إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين ـ وبخاصة نظرية فرويد ـ ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية.

 رأيت بعينيّ في أشد البلاد إباحية، وتفلتاً من جميع القيود الاجتماعية، والأخلاقية، والدينية، والإنسانية ما يكذبها، وينقضها من الأساس... نعم شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي، والاختلاط الجنسي بكل صوره وأشكاله ؛ أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجسدية، وترويضها، إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي، ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع.

 وشاهدت من الأمراض النفسية، والعقد التي كان مفهوماً أنها لا تنشأ إلا من الحرمان، شاهدتها بوفرة، ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه، ثمرة مباشرة (للاختلاط) الذي لا يقيده قيد، ولا يقف عنده حد.

 

 إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته، فالنظرة تثير، والحركة تثير، والضحكة تثير، والدعابة تثير، والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات، وذلك هو المنهج الذي يختاره الإسلام، مع تهذيب الطبع، وتشغيل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة، غير تلبية دافع اللحم والدم».

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك