ويرتفع صوت الحسين


ويتجدد الحزن الذي لم ينقطع دوماً، يعم العزاء مشارق الأرض ومغاربها، تنتشر مجالس العزاء في شتى أنحاء المعمورة، تصطف حلقات اللطم وتعلو رثاءات الطف، ترتفع نعاوي الخطباء، تُفْرَش الموائد للتبرك، تخرج المسيرات الحاشدة والتلبيات تصدح من حناجر حشودها، تُشَمِّرُ مواكب الخدمة عن سواعدها، مواعظ وحِكَم محفوفة بعِبْرات وعَبَرات تملأُ المحافل المكتظة بروادها، شوراع تُغلَق وحواجز تُنصَب لدواعي أمنية لا بد منها، تَأَهُّبات من هنا وهناك، برامج إرشادية وحلقات توجيهية، أعمال مسرحية ونشاطات تعريفية. يسأل السائل ما الخبر? ماذا حدث على وجه الأرض? فيأتيه رد الشاعر من مكانٍ ما "يِسْكِتِ العالم بِأَسْرَه وْنِسْتِمِع صوت الحسين". 

أقبل شهر محرم الحرام، قدِمت أيام العزاء وطلَّت أسابيع السواد، وعاشور حطَّ رِحالَهُ مُعلِناً تجدد الأسى، وموقِظاً جولة جديدة من مراحل النحيب، ومعلِناً انطلاقة حلقة أخرى من مسلسل الوفاء لسيد الشهداء. لا نبالغ إن قلنا  أننا في محضر أفظع كارثة أرَّخها التاريخ، فبعد أن مَنَّ اللهُ على عباده بأن أرسلَ إليهم نبيّاً من أنفسهم ليخرجهم من الظلمات الى النور، ولِيَستنقذهم من غياهب الضلال وأعماق الجهل، الى موائد النور وحدائق المعرفة، دون أن يطلب منهم مقابل مع عظمة مهمته الربانية، إلا المودة في القربى، وإذ بهذه الأمة ترسم العارَ على جبينها وتسطِّر أبشع جرائم الدهر بقتلها ابن بنت نبيها, خليفة الله في أرضه، إمامٌ معصومٌ مُفتَرَض الطاعة، وتقتل أهل بيته وأصحابه، وتسبي نساءه وترعب أطفاله، وتفعل ما تفعل على ما هو مؤرخ في محله. 

عجباً لهكذا جماعة، شخصٌ كأبي عبد الله الحسين، بل ملاكٌ إنسي، ونورٌ بشري، يُذبَح على رمضاء كربلاء عطشاناً، ويُترَك بلا غسل ولا كفن؟          لِمَن يستغرب بكاءنا ويستهجن عزاءنا على مدى أكثر من عشرة قرون على إمامنا، أدعوه لأن يتخيل أحد مُقرَّبيه يحتضر على فراش الموت الى أن توافيه المنية, ماذا يصنعون له قبل الوفاة وبعدها? أَلن يقوموا بداية بجمع شمل العائلة ليستديروا حوله مؤنسين له في حالته? ويُبدوا استعدادهم لتلبية حاجاته وسماع وصاياه وتنفيذ مطالبه? ثم بعد عروج الروح، ينفضّوا الى الاهتمام بمستلزمات الموقف من مراسم الدفن وتحضيرات العزاء وغيرها? أَلَن يفرض هذا الاستنفار المعهود نفسَه سيد الموقف في مختلف حالات الموت الطبيعة؟

فكيف بنا إذا كنا أمام حادثة يحيطها العجب من كل جهاتها!!

فمن ناحية، عظمة الشخص المقتول، سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفداحة الطريقة التي أُجهِزَ بها على الإمام عليه السلام، من خلال محاصرته وأهل بيته، نساءً وأطفالاً وشبانا,  ومنعهم من الماء، والتنكيل والتضييق عليهم بعد شهادة الإمام. 

كما ورؤية أهل بيت الحسين وأصحابه، شيباً وشباناً في عمر الورد ينزلون الى الميدان بمفردهم والعطش قد نال منهم أيَّما نيل، واستبسالهم في منازلة أعداء الله، دفاعاً عن الدين وحمايةً لِحُرَم رسول الله، وتصفية ما تيسر من جنود الكفر من بين الأعداد الهائلة الموجودة، الى أن يرتقوا لجوار ربهم شهداء مكرمين، ينحني العزُ لِعُلُوِّ قدرهم، ويضرب لهم المجد تحاياه غابطاً رِفعة منزلتهم، ولِيغدوا مضرب مثل للتضحية والوفاء والإخلاص والكبرياء والشجاعة وغيرها، ولِيتمنى كل موالٍ لو أنه كان معهم فيفوز معهم فوزاً عظيما.                                                          

ومن ثم نجد مسيرة سَبْيِ النساء والأطفال، وتسييرهم  مع الإمام زين العابدين عليه السلام الى الكوفة والشام مع ما تتضمنه من تفاصيل مدهشة وأحداث مؤلمة.                               

وغيرها من الوقائع والشواهد التي تدمي القلوب وتبكي العيون، والتي تُقحم الباحث الموضوعي عن الحقيقة في دوامة من الذهول لغرابة مجريات هكذا تاريخ مخزي قد جرت أحداثه في زمانٍ من الظلم وحقبة من التعدي على أئمة الهدى عليهم السلام.

فهل يُعقل أن شخصاً كيزيد بن معاوية يكون حاكماً على المسلمين وهو شارب الخمور والمعلن للفسق? فكيف بهكذا شخصية تمتلئ بالصفات الرذيلة أن تطلب البيعة من الذي قال فيه رسول الله "حسين مني وأنا من حسين"؟                                                

ما هذه الوقاحة? وما هذا التجرؤ؟

وذاك عمر بن سعد، قائد الجيوش لقتل سيد الشهداء عليه السلام، يختار ملك الرَّيّ أياماً يسيرة مقابل قتل الحسين عليه السلام، فتُسحَق الأجسام وتُفصَل الرؤوس وتُحرَق الخيام وتُسلَب النساء!!                               

ما هذه النماذج التي كانت حاكمة? هل يرضى بهكذا حكام المسلمون من أهل السنة? ماذا لو تُرِكَ الإسلام بأيدي هؤلاء السفلة? أَوَليس القتل وشرب الخمر وهتك الأعراض من المحرمات في فقه أهل العامة؟

فكيف اذا كانوا الضحايا هم أهل بيت النبي الأعظم؟

عجباً من هذا الدهر ما أمَرَّه على أهل البيت عليهم السلام، ولكن شاء الله أن يخلِّدَ ذكرهم ويرفع قدرَهم ويُزكيهم ويُذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا.

أروني أين الحسين اليوم وأين يزيد، فالأول له قُبَّةٌ شمخاء يشرئِبُّ عنقها في العلياء، ويأتيه الملايين من كافة الأرض، ولا يزال المؤمنون يبكونه من  آلاف السنين. أما الثاني، فقد انقرض في مزبلة التاريخ، وعذراً من "الزبالة", لأنه يمكن الإستفادة منها، أما أمثال يزيد،،،فأترك لكم التعليق.

روحي فداك سيدي يا أبا عبد الله الحسين، ما أعظمك وما أروعك، فديتَ الإسلام بروحِك، أحييتَ الدينَ بدمائك الزكية، وأنتجت لنا مدرسة خالدة في صفحات التاريخ وفي عقول محبيك وأذهان عاشقيك، ينهلُ منها كل باحث عن الحقيقة، وكل سالك الى ربه، وكل طامح الى الكمال، فهي جامعة متعددة الإختصاصات، وعابرة للزمان والمكان.     

قد صدَقتَ يا "عابس" عندما أطلقت عبارتك الخالدة، كم أنت جميل باختيارك، فقد رمَيت برمح عشقك على جرح كل موالي ذائب في حب الحسين، "حُبُّ الحسينِ أَجَنَّني".

"ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" . 

  

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك