السَّيْرُ الى الجنة


يستنفر الموالون في كل عام، تُتْرَك العيال ويُهْجَر الأصحاب، تزدحم حركة الطائرات، تتأهب المواكب على طول الطريق، تبدأ عملية الزحف الى مهوى القلوب ومَحَطّ الأفئدة، تُشَرِّع الجنة أبوابَها، تأتي أفواج المحبين من مختلف البلدان، إنه موسم عجيب، وتوقيت مميز، الخدام يستميتون في تقديم الخدمة وتأمين المتطلبات، بل ويتفننون في إظهارها والتشرف بتوفيرها. يا إلهي ما هذا الحدث الجَلَل، ما أروعها من مناسبة، الشوارع مكتظة والنشاط في أوجّ سخائه، ماذا حَلَّ بعباده الله المخلصين؟ ألهذا الحد وصل الإخلاص وتنامى الحب وازَّيّنت القلوب بأطياف من عشقٍ غريب؟ 

صغارٌ وكبارٌ، شيبٌ وشبانٌ، رجالٌ ونساء، يسيرون الى مقصدهم، بكل نشاط وحيوية، تتقدم الخطوات الى موعد إلهي ولقاء وَلائي، وَلا أستبعد أن الجمادات، ومخلوقات ما وراء عالم الإنس، الملائكة والجن، الطيور والأسماك، الأنهار والبحار، الجبال والأودية، الغيوم والمزن والسحاب، تغبطهم على مسيرهم، وتتمنى لو أنها تسير معهم وتمضي برفقتهم. ما هذا الحب الغريب، والمودة الملفتة، والفناء العشقي الفريد من نوعه! بعد كل هذه القرون التي مضت، وإذ بهذه العلاقة تزدادُ تَوَطُّداً، تتعمق جذورها، تتفرع أغصانها، تتنوع أنواع عطورها، تتفسَّح بساتينها، تتنوَّر مصابيحها، تشتدُّ تعمقاً في غياهب عوالم عروجية تختلف قوانينها عن تلك التي اعتدنا عليها، فلها سُنَنٌ ملكوتية لا يعيها إلا الخواص الخُلَّص من أهل البصائر النَّيِّرة. إنها علاقة إمامٍ مع أبنائه، وَوِلِيٍّ مع أحبائه، إنه ذوابٌ إضمحلاليّ عاصٍ عن أن تفكَّه أيُّ تركيبة كيميائية، أو محاولات تهويدية، أو شرذمات واهية، أو أباطيل كذائية.

سيدي "أبا عبد الله", مولاي يا "سيد الشهداء", ما هذا الإرث العظيم الذي خلَّفته، وما هذا التأثير الذي أثَّرته والذي يزدادُ دهشةً على مر العصور، فهذه الحشود المليونية الزاحفة لمرقدك الشريف قد حيَّرت ألباب العقلاء، وأداخت عقول المفكرين، وأطاحت بقواعد عشق المُتَيَّمين، وأزاغت أبصار المتحدّقين.

نعم مولاي، سأحاول تقديم إجابةٍ لكل تائه في دهاليز النظريات التأويلية، سأقول لهم إنه الحسين (عليه السلام) من قدَّم نفسَه وعياله وأهل بيته وكل ما يملك في سبيل جبار السماوات والأرض (جل وعلا)، فهذا "إبراهيم" (على نبينا وآله وعليه السلام)، نبي من أنبياء  أولي العزم، قد رقاه الله الى مرتبة الإمام بعد سلسلة من الإمتحانات الإبتلائية [وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] { سورة البقرة-الآية 124}، والتي من أوضحها قضية ذبح ابنه "إسماعيل" [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ] {سورة الصافات-الآية 102}، حيث اتجه لذبحه امتثالاً لأمر الله (عز وجل)، قبل أن يأتيه الأمر الإعفائي ليُسقِط عنه هذا التكليف الثقيل [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ] { سورة الصافات-الآية 106}. فكيف بإمامنا الحسين(عليه السلام)، والذي شهد مصرع كلّ الخُلَّص الوَفائيِّين من حوله، أهل بيت وأصحاب وأنصار، وذُبِح رضيعه بين يديه، والمآسي والمعاناة التي حلت بهم من عطش وعناء ومشقة وغيرها، قبل أن يأتي الدور على أن يُذبَحَ هو (بأبي وأمي)، عطشاناً لا ناصر له ولا معين، قد تكالبت عليه أعداء الله من كل حدب وصوب.

لِم كل هذه التضحية من إمامنا (روحي له الفداء)؟ من أجل ماذا كل هذا العطاء الذي بلغ ذروته؟ إنه، وبكل تأكيد، من أجل الله (جل اسمه)، بهدف إبقاء كلمة الله هي العليا، والحفاظ على الشريعة الإسلامية الأصيلة التي بعث الله بها جده المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم).

نجد في معاييرنا الدنيوية، أن من أحسن إلينا بمعروف خَيِّر، نحفظ له هذا الجميل ونتحيَّن الفرصة لوفائه بشتى السبل المتاحة، وكلما تعاظم هذا المعروف، تعاظم في مقابله مستوى الوفاء له. 

فلو قام أحدهم بإنقاذ أحد مُقَرَّبينا من الموت، نجد أنفسنا أننا في موضع المُتَفَضَّل عليه أيَّما تفضل، وأننا بمثابة مَن قُدِّمَت له الدنيا برمتها وما فيها، وأنه مهما عملنا وحاولنا لن نستطيع إيفاء شيء يسير من حق ذاك المتفضل، فضلاً عن تأدية حقه بالكامل.

فإذا كان هذا حال المقصرين والفاقدين لأدنى مراتب الكمال والرقي السلوكي، فكيف بحال رب الكمال وإله الكرم والإكرام والتفضل والإنعام، وهو الله (عز وجل)، كيف به تعالى وهو يرى وليّاً من أوليائه وخليفته في أرضه وإمام عباده يقدم أغلى ما يملك وكُلَّ مَنْ لديه وما لديه في سبيله (جل شأنه)، فهل سنجد أكرمَ منه تعالى وأجودَ عطاءً وأبسطَ كفاًّ في رد هذه التضحية البراقة  التي لا مثيل لها؟ حاش لله(جل وعلا) أن يُضاهَى أو يُنافَس في إكرام عباده الباذلين والمضحّين، وها نحن نرى هذه الينابيع المتفجرة والكم الهائل من عباده الله المؤمنين الذين يأتون مشياً على الأقدام لزيارة المولى أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، فضلاً عن مجالس ذكر الحسين التي تملأ العالم وباقي أشكال هذا الذكر المبارك. فيا له من رَدٍّ إلهي، وهدية من الله تعالى لعبده ووليه الذائب في حبه، والمستميت في الفناء لأجله. إنه عطاء الله الذي لا يصله عطاء، وكرمه الذي لا يُوازى بكرم، وسخاء لا يُعلَمُ أوله من آخره، ولا تُدرَك بدايته من نهايته، فما كان لله ينمو ويتصل، وما كان لغير الله ينقطع ويضمحل.

فطوبى لكم أيها الزائرون الشرفاء، الزاحفون الأوفياء، العاشقون الأتقياء، المُدرِكون بعين البصيرة، المُكْسَوْن بنور الولاء. هنيئاً لكم هذا التوفيق الإلهي المميز، التسديد الرباني المُكَنَّز، الإستدعاء الحسيني المُتَّشِح بزخارف الغرام. سلامٌ لكم من أقصى بلاد الأرض، سلامٌ يمتطي مركب عشق الحسين عابراً المحيطات لِيسكُن قلوبكم الدافئة، الممتلئة يقيناً والمغمورة شوقاً. تحية لأقدامكم المتساعرة الى معشوقها، تحية الى شسوع نعالكم الدائسة على تراب كربلاء الطاهر، تحية الى الغبار الكامن على أجسامكم النقية، أخُطُّ حروفي والقلب يتقطَّع حُرقَةً على حرمان التواجد بينكم، والدموع تنسكبُ مُغرِقَة الحبر بأشواق من حنين يتدفق كسيل العَرِم، من فؤاد يحترق شوقاً وقلب يلتهب شرارةً، ليسكن وادي الطفوف ويرقد عند المرقد الطاهر فينبِت نباتاً ذا رائحة مسكية يسيح عطرُها الى جنانٍ من ذاك العالم فَيُخَدِّر به وِلداناً مخلدين اشرَئَبَّت أعناقُهم طمعاً لأن يكونوا وَلوْ تراباً من أرض نينوى تدوسهم أقدام العابرين فتزيد من طهرهم وترفع درجاتهم. 

أما الى خدام الحسين، خدام زواره والسائرين نحوه،  الوِلدان المطهرون في جنة الأرض، أيها السلاطين المتوجون بتيجان الخدمة الإلهية، الملوك المتربعة على عروش الكبرياء وممالك الأتقياء، أين نحن وإيفاء حقكم، كيف لبعض الأسطر أن تجسد مجهودكم المبارك ونشاطكم المخلد، نحن نكتفي بمرورٍ رمزي يكتسي رداء الخجل لما تبذلونه، وينحني مُحْدَوْدِب الهامة لما تُسَطِّرونه من مشاهد عزِّ لا نظير لجمالها ولا مثيل لرقيها، فسلامٌ لأياديكم العاملة وسواعدكم الكادحة، طبتم وطاب منبتكم، ولا بد لكم ولزوار الحسين (عليه السلام) ولأمثالي المحرومين من الزيارة من لقاء، فالى ذلك الملتقى، هنيئاً لكم أيها الزائرون والخادمون هذا "السَّيْر الى الجنة"، {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}.

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك