الكتاب: نهج البلاغة جمعاً وتحقيقاً في ضوء النقد الثقافي

3455 2015-10-28

المؤلف: أحمد عبيس المعموري

الناشر: المركز الثقافي للطباعة والنشر، 2015م (عدد الصفحات329)

عرض: علي ياسين

برز في حقل الدراسات الأدبيّة في الآونة الأخيرة مجالٌ جديدٌ له القدرة على الانفتاح والتمدد خارج الحقل المذكور وصولا إلى إمكانيّة دراسة كل ( ممارسة ثقافيّة دالة ) كالفنون الشعبية والأزياء ومؤسسات السلطة والنكتة والأحاجي إلخ.

وهذا المجال الذي عرف بـ( النقد الثقافي) هو مجال قادر بما يمتلكه من إجراءات ومعالجات مغايرة للمناهج النقدية السابقة - كما يصفه صاحب الكتاب الذي كان بالأصل أطروحة أكاديميّة-  على الوصول إلى غايته التي (( تتجسد بفهم طبيعة الثقافة التي أنتجت الخطاب، ونقد الأنساق الثقافية التي غرستها فيها، ودورها في تكوين معرفة الفرد وطرائق تفكيره وكيفية تشكل عواطفه وأحاسيسه، ومن ثمّ آليات السلطة والمؤسسات في تنميط الثقافة والتاريخ بما يوافق توجهاتها وسياساتها، ويتمّ ذلك من خلال إعادة إنتاج الثقافة نفسها بوصفها قوة عظيمة للهيمنة. المقدمة ص 11)).

ومن هنا يحدد الباحث الدكتور أحمد عبيس الأسباب التي دعته لاختيار النقد الثقافي وسيلة توصله إلى ما يهدف إليه بحثه من خلال تعرّضه لدراسة قضيتين أساسيتين مهمّتين: ((أولاهما، كيف نُظِرَ إلى نهج البلاغة بوصفه مجموعة نصوص اختارها الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، وفيها تمّ تشخيص ثلاثة مواقف: التشكيك، والإنكار، والتأكيد. وثانيتهما، كيف جرى تحقيق نهج البلاغة من حيث دوافع المحققين وغاياتهم؟ المقدمة ص 12 )).ولأنّ الباحث ينطلق من مسلّمة بديهيّة هي: ضرورة التشديد على أهمية الانتقال المنظّم بين النص والثقافة التي صدر عنها؛ باعتبار أنّ للثقافة أثرا فعالا في توجيه الأفعال والرغبات لكونها تهدف - كما ينقل الباحث عن  آرثر أيزابرجر- إلى التلاعب بوعي الجماهير بغية الحفاظ على المؤسسات القائمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ( ص 33) فلذا تأتي أهمية تكوين صورة واضحة عن البيئة الثقافية التي أُنتِجت فيها النصوص التي تعاملت مع كتاب نهج البلاغة، لغرض فهم معانيها، ومن ثم اكتشاف الأنساق الثقافية الكامنة فيها.

وبإزاء ذلك يقسم الباحث مادة بحثه على بابين يسبقهما تمهيد في النقد الثقافي، وقد حمل الباب الأول عنوان( جمع نهج البلاغة في ضوء النقد الثقافي) وضمّ ثلاثة فصول هي: نسق التشكيك، ونسق الإنكار، ونسق التأكيد، في حين كان الباب الثاني بعنوان ( تحقيق نهج البلاغة في ضوء النقد الثقافي ) وقد اشتمل- أيضا - على ثلاثة فصول هي: نسق الحياد، ونسق الولاء، ونسق المخالفة.

أولا / نسق التشكيك 

لقد تطرّق الباحث في غضون الفصل الأول من الباب الأول لبحثه إلى أساليب المشككين وحججهم المختلفة التي وقفت وراء ادّعاءاتهم المشكّكة بصحة نسبة النهج إلى الإمام علي (ع) معتمداً التسلسل التاريخي في طرح الحجة ومحاولة تفنيدها، فيبتدئ بأول هؤلاء المشكّكين وهو ابن خلكان ( ت 681هـ)  الذي تدرّج في شكّه ليسبغ على رأيه الموضوعية ويدفع عن نفسه القصدية القَبْلية، وهو يقول عندما رجّح الشريف المرتضى لوضع كتاب نهج البلاغة: ((وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هل هو جمعه؟ أو جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام عليّ، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه والله أعلم، ص 36 )) وحين يحاول الباحث دحض رأي ابن خلكان فإنّه يعود إلى سيرة الرجل التي عرفت بالشغف بالغلمان وحب الخمرة وجمعه لشعر يزيد بن معاوية، فضلا عن عدم إنصافه لبعض الأعلام بخلاف البعض الآخر حين يترجم لهم، وينتهي الباحث إلى القول: (( إن ما ورد في الصفحات السابقة إنما هو استقراء للسياق التاريخي والثقافي الذي وجد فيه الإمام عليّ(ع)- صاحب الكلام- والشريف الرضي- جامع الكلام - لنضع تشكيك ابن خلكان في سياقاته المختلفة، فتبيّن لنا عدم موضوعية التشكيك، فهو بلا أدلّة، وأثبتت السياقات بُطلانه. ص45))

أمّا ابن تيميّة ثاني المشكّكين فإن حجّته تمثّلت بكون خطب النهج غير معروفة بأسانيد أخرى سابقة للكتاب الذي جمَعَها به الشريف الرضي، وهو ما يؤهّل هذه الخطب للطعن والتشكيك في صحة نسبتها للإمام علي، ويحاول الباحث تفنيد حجج ابن تيميّة، فيجمل ذلك بكون خطب الإمام علي كانت معروفة عند مؤرخي العرب وأدبائهم ممن سبقوا الشريف الرضي، كالجاحظ، وغيره، فضلا عن أن الظروف السياسيّة التي عرفتها الحياة العربية والإسلاميّة حالت دون ذيوع تلك الخطب وانتشارها لما تشتمل عليه من أمور تقف على الضد من أهداف الحكام الذين كانوا على الغالب من مناوئي علي بن أبي طالب (ع) ( ينظر ص46 وما بعدها ) .

ويقف الباحث طويلاً عند مواقف ابن تيمية الشخصيّة والعقائديّة من أمير المؤمنين ودورَها في تغذية عدائه الصارخ لعليّ ابن أبي طالب متسائلا: ((ماذا يتوقع القارئ من ابن تيمية وهو يسوق هذه الادّعاءات بحق رجل ما اختلفت عليه الطوائف؟ إنه رجل الإٍسلام الحقيقي بعد رسول الله(ص) قولا وفعلا. بل كان أنموذجا للبشرية لا للإسلام فحسب، حتى أعظمه علماء الديانات الأخرى)) .

ثم يقف الباحث عند المشكّك الثالث في صحة نسب النهج إلى الإمام علي (ع) وهو اليافعي المتوفى 768هـ الذي ردّد في كتابه (مرآة الجنان) ما صرّح به سابقه ابن خلكان بالحرف الواحد، ولعل الرجل لم يكن مدفوعاً بعصبيّة مذهبيّة ناوأت عليّاً بقدر كونه متابعاً لآراء السابقين دون تمحيص ودراية ( ص 58-59).

أمّا المشكّك الرابع فهو ابن كثير الدمشقي المتوفى 774هـ إذ يترصّد الباحث أحمد عبيس كتابه المعروف ( البداية والنهاية ) فيجد ابن كثير حين يترجم للشريف المرتضى ينعته بهذه العبارة: ((ويقال إنّه هو الذي وضع كتاب نهج البلاغة)).

ويضع الباحث يدي القارئ على موقف ابن كثير المناوئ لعلي ومتابعيه، لا سيّما وأنّ ابن كثير كان ممّن ألفوا مجالس ابن تيميّة وحضروا محاوراته العلميّة، وقد تابع ابن كثير أستاذه ابن تيميّة في صياغة أفكاره ومواقفه ممّا كان له الأثر البالغ في تكذيب رموز التشيّع ومحاولة الحط من قيمتهم بغض النظر عن منزلتهم الاجتماعية والعلمية.(ص62).

ويكرر خامس المشككين وهو ابن عماد الحنبلي المتوفى 1089هـ في كتابه الموسوم ( شذرات الذهب في أخبار من ذهب ) كلام ابن خلكان مار الذكر، فيحاول قراءة مواقف الحنبلي المناوئة للإمام علي (ع) قراءة ثقافيّة تسعى لتفكيك انتصار الحنبلي للخلفاء الثلاثة على حساب أمير المؤمنين (ع) ولعلّ هذا ما دعا ابن عماد الحنبلي - بحسب الباحث-  لمتابعة ابن خلكان في تشكيكه بصحة نسبة النهج للإمام علي (ع).

أمّا محمد علي كرد ( ت 1372هـ) الذي يقف عنده الباحث طويلا فهو سادس المشكّكين بصحة النهج إلى أمير المؤمنين وهو - بحسب الباحث - وإن كان من دعاة التحديث الحضاري والإصلاح الديني فهو لم يستطع التخلص من نفق التقليد واجترار الأفكار السلفيّة، وقد تابع كرد - وهو صاحب مجلة المقتبس ورئيس المجمع العلمي العربي بدمشق- أفكار أسلافه المشكّكين بصحة نهج البلاغة للإمام علي (ع) إذ شكّك مثلا، في عهد الإمام لمالك الأشتر الوارد في أحد متون النهج بحجة كثرة التسجيع والصنعة الواضحة، وقد غاب عنه بحسب الباحث أن زمن الإمام كان زمن الشفاهيّة التي تتطلب صياغات معينة كوجود السجع مثلا، تساعد على حفظ النصوص وتداولها بين الناس، مذكراً بأن بعض خطب الرسول الكريم قد اشتملت على السجع بالرغم من ذمّه للتسجيع في الكلام! لأن المذموم منه ما كان أشبه بسجع الكهّان، فضلاً عن وجود السجع في القرآن الكريم ذاته ( ينظر ص 64 وما بعدها) كما يضيف كرد - علاوة على ما تقدّم- تشكيكاً مفاده: كثرة الاختلاف في الأقوال والخطب واحتمال كون هذه الأقوال لبعض فصحاء الشيعة ممن جاء بعد عصر الإمام بقرون، وقد غاب عن كرد أنّ الاختلاف في الروايات هي مسألة عرفها الحديث النبوي الشريف، فضلا عن الاختلاف الموجود في أشعار الجاهليين.

وفي الجانب الآخر يجد الباحث محمد علي كرد مُشيداً بمواقف الأمويين في مناصبتهم العداء للشيعة إذ برّأ علي كرد علي معاوية من سنّة سبّ الإمام علي (ع) على المنابر جاعلا من لعن الخلفاء الثلاثة ركنا من أركان التشيّع. ولعلّ تعصّبه الأعمى هذا هو ما يبرر مواقفه من صحة نهج البلاغة إلى صاحبه الحقيقي بحسب الباحث.

ويقف الدكتور أحمد عبيس مفصّلاً مواقف سابع المشككّين وهو العلامة طه حسين عميد الأدب العربي الذي وجده متأرجحا بين موقفين الأول متمثّل بقول طه حسين: ((إن نهج البلاغة ليس كلّه للإمام عليّ - كرّم الله وجهه - بسبب غلبة طابع الصنعة عليه)) أمّا الموقف الثاني فيمثله قوله: ((إن في بعض كتب التاريخ مثل الطبري والبلاذري خُطباً للإمام عليّ، وهذه يمكن قبولها وصحة نسبتها إليه، والذي أرجِّحَه أنّ نهج البلاغة من تأليف الشريف الرضي)).

ويتقصّى الباحث أخبار بعض الرواة الذين اعتمد عليهم الطبري والبلاذري فيجدهم من أقلام السلطة كعامر الشعبي المتنقّل بين الخصوم السياسيين والشارب للخمر، وكهشام بن عمار الدمشقي المدافع عن منهج معاوية وأساليبه السياسيّة..

ويعود الباحث إلى سيكولوجيّة طه حسين وثقافته الخاصة، فيقف عند موقفه المشكّك في بعض تفصيلات القرآن الكريم، وفي الوجود التاريخي للنبيينِ إبراهيم وإسماعيل (ع) وهجرتِهما، وهي أقوال سبق أن ردّدها أساتذته المستشرقون المعتقدون بعدم صلاحية الإسلام للعصر بحسب الباحث. ( ص75)، فضلا عن مغالطاته الكثيرة في كتابيه ( على هامش السيرة ) و( في الشعر الجاهلي ). كما كان طه حسين ذا هوى وميل لأبي بكر وعمر على حساب علي فهو القائل مثلا: (لم يعرف المسلمون ولا غير المسلمين أميراً حاول من العدل ما حاول عمر، وحقق منه ما حقق عمر).

وكان محمد سيد كيلاني المتوفى سنة 1998م ثامن المشكّكين في صحة نسبة نهج البلاغة للإمام علي (ع) وقد ظهر ذلك في كتابه: ( أثر التشيّع في الأدب العربي ) الذي يرى فيه أن أدباء الشيعة قد وضعوا أقوالاً وخطباً ورسائل أسندوها إلى أئمتهم، وبخاصة عليّ بن أبي طالب، وأنّ هذا الكم قد أخذ يتزايد يوما بعد يوم، حتى أتى الشريف الرضي فجمع كل ما يُنسب إليه في كتاب ضخم سمّاه( نهج البلاغة ) وفيه كلام يخلو من أشيع الحروف في الكلمات، وهو حرف الألف.. ( ص 78 ) ويلتفت الباحث إلى أسلوب كيلاني المتميّز بالسخرية والتهكّم اللذين يشعران القارئ بمقدار تحامله وإخفائه لقناعات مُسبقة لا تليق به كباحث، يقول كيلاني مخاطباً قارئه: (( إذا ألقيت نظرة على الخطب المنسوبة لعليّ لم تتمالك نفسك من الضحك وذلك لِما جاء في كثير منها من أمور وقعت بعد عصر عليّ)) وهناك عبارات أخرى يلمس فيها القارئ أن كيلاني متيقّن من شكوكه، منها قوله: (( وأمرٌ يجعلك تزداد شكا وارتيابا وأمر يدفعك إلى رفض الكثير مما يُنسب لعليّ وأمور لا يقبلها العقل، كخرافة الوصاية! )). ويقود تحامل كيلاني - بحسب د. المعموري- إلى تحامل على مطلق التشيّع إذ يقول كيلاني في كتابه المذكور: (( فترى أنّ التشيّع قد أخرج لوناً من الأدب كان سبباً في الهبوط بالمسلمين إلى هوّة سحيقة من التأخّر والانحطاط، وقد أفلح الوهابيّون في القضاء على الكثير من هذه الخرافات في داخل بلادهم )). فضلاً عن نسبِه للشيعة أموراً ومغالاةٍ يأباها العقل، وقد حرص الكيلاني على أنها من أصول المذهب الشيعي بغية تشويه صورته عند الآخرين.

أمّا مؤرّخ الأدب العربي بعصوره المختلفة ( شوقي ضيف المتوفى 2005م) فهو التاسع بين هؤلاء المشكّكين من ناحية التسلسل التاريخي، وقد جاء تشكيكه في إطار دراسته لخطب الإمام علي في العصر الإسلامي حين يقول في كتابه تاريخ الأدب العربي: ((ينبغي أن نقف موقفَ الحذر مما يُنسب إليه من خطب في الكتب المتأخرة، وخاصة نهج البلاغة، فإنّ كُثْرَتَه وُضعِت عليه وضعا، وقد تنبّه إلى ذلك السابقون )) كما احتجّ شوقي ضيف بأن أغلب خطب الإمام مسجوعة في حين أنّ الرسول والخلفاء من بعده قد تحاموا السجع، وذمّوه .

لقد كان شوقي ضيف واحداً من أعداء التحديث و التجديد المعرفي، ومواقفه في ذلك كثيرة معروفة ( ينظر ص 93 ) ولذا جاء شكّه بمثابة الترديد الأجوف لآراء من سبقوه من الذين يجلّهم ضيف أيما إجلال، فلا يكاد يخرج عن آرائهم قيد أنملة، وقد غرب عن باله - بحسب الدكتور المعموري - أن الرسول ( ص ) كان قد نهى عن سجع محدّد حقّا، في حين أن بعض خطبه كانت مسجوعة،  وكما يعرف ذلك القاصي والداني.

محمد طاهر درويش المولود عام 1922م هو عاشر المشكّكين من خلال كتابه: (الخطابة في صدر الإسلام) الذي درس فيه خطب الإمام فوجدها على قسمين: خطب يطمئن إليها، تناولها بالتحليل والنقد، وخطب مشكوك فيها، أخذ عليها مجموعة مآخذ، أبرزها: خلو خطب بعينها من بعض الحروف كالألف مثلا، وهي تنتمي لعصر الصنعة أيام العباسيين وما بعدهم، كما اشتمل النهج برأي درويش على عبارات مخترعة، عجيبة التركيب، تستبعد على الإمام علي لفظا ومعنىً وعقيدةً، وتأباها سليقته الأدبية، وذوقه الفني الرفيع، فضلا عن احتواء بعض هذه الخطب على تنبؤات عن الحَجَّاج وفتنة الزنج وغارات التتار، واشتمالها على التعريض بالصحابة، وشيوع مصطلحات العلوم والفلسفة والتوحيد في بعضها الآخر. أمّا ما في النهج من وصف دقيق للطاووس والخفاش، فيرى درويش، أنه أسلوب أشبه بأساليب العصر العباسي.

ويفنّد الباحث هذه المزاعم جميعا، ولعل التاريخ - بحسب الباحث- ينقل لنا صوراً من استشراف المستقبل والتنبّؤ بالأحداث عند آخرين سوى الإمام، كالّذي ورد على لسان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين تولّى الأمر فيها عثمان بن عفان، ويورد هذا الخبر ابن أبي الحديد المعتزلي، نقلاً عن الجاحظ، فيقول متحدثاً عن عمر بن الخطاب: ((وأقبل على عثمان، فقال: هيها إليك! كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبِّها إياك، فحملت بني أمية وبني معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب، فذبحوك على فراشك ذبحاً، والله لئن فعلوا لتفعلنّ، ولئن فعلت ليفعلُنّ. ثم أخذ بناصيته فناجاه، ثم قال: إذا كان ذاك فاذكر قولي هذا فإنه كائن...))..

 أمّا الطاووس فقد ذكر الشارح المعتزلي أن الإمام قد شاهده في الكوفة، عندما كانت تأتي إليها هدايا الملوك من الآفاق، أو أن يكون قد شاهده في البصرة التي كانت مركزاً للتجارة بوصفها حلقة الوصل بين العرب وغيرهم. ويصل الباحث إلى نتيجة مفادها أن الحجج التي تذرّع بها درويش في تشكيكه بصحّة نهج البلاغة ما هي بالحقيقة إلاّ تجلّيات لدوافع مذهبية في أرجح الأحوال.

آما آخر المشكّكين فهو شفيع السيد المولود سنة 1941م من خلال مقال له منشور في مجلة الهلال بعنوان( نهج البلاغة، المنسوب للإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه) وقد جاء في مطلع مقاله هذا ما نصّه: ((إنّ الشائع بين جمهور المتأدّبين في العربية أن هذا الكتاب من كلام الإمام عليّ كرّم الله وجهه، قام الشريف الرضي بجمعه)) ثم يضيف السيد ما نصّه: ((إن هذه النسبة لم تكن موضعا للتسليم والقبول من جميع العلماء والدارسين، فقد ذهب بعضهم إلى أن الكتاب ليس من كلام عليّ وإنّما هو موضوع عليه، وأن الذي وضعه هو الشريف الرضي نفسه، وكان منهج الرضي في تسجيل النصوص من العوامل التي استندوا إليها في تأييد وجهة نظرهم؛ ذلك أنّه في الأعم الأغلب من الأحيان يورد النصوص منسوبة إلى الإمام عليّ دون توثيقها بذكر المصادر التي سبقته إلى روايتها، أو الشيوخ الذين روى عنهم))

ويجد الباحث شفيعاً السيد يقع في التناقض لأنه يرى شيوع نسبة نصوص نهج البلاغة إلى الإمام عليّ(ع) بين جمهور المتأدّبين، ثم يرى من جهة ثانية أنّ النسبة لم تكن موضعاً للتسليم والقبول من جميع العلماء والدارسين. (ص 106) ولعلّ ما يقف وراء آراء السيد -بحسب الباحث-  القناعات المسبقة التي كانت الباعث على أقوال شفيع السيد وشكوكه، التي يسقطها على من يشاء من الناس، ويلتمس لها المسوغات، دون أن يتوثّق من أنه مصيب في رأيه وحججه، أم أنّه خلاف ذلك.

وهكذا فإن هؤلاء المشكّكين الذين عرض لهم الباحث، فهم وإن تعدّدت حججهم فإن نسقا خفيا حاكما كان يقف خلفها وهو نسق (( مُتأتٍّ من تداخل حقلي الدين والسياسة، وهو التعصب المذهبي الذي يقود المرء إلى التقوقع والتحجر بدافع المحافظة على المعتقدات الدينية ودفع الخطر عنها، ومن ضمنها الإقرار بمشروعية سلطة الخلفاء الثلاثة قبل الإمام عليّ، وسلطة الأمويين أو من بعدهم، والرغبة في تنزيه أولئك الصحابة وبيان عدالتهم)) (ص181) . أمّا المشككين والمنكرين المحدثين منهم فهم بحسب الباحث لم يطّلعوا على المصادر التي تنقض الشكوك وتدحضها، بل إنهم لا يريدون أن يطّلعوا عليها، حتى لا يغيّروا قناعاتهم، فهم اكتفوا بإطلاق الشكوك انسجاما مع عقيدتهم بدافع التعصب المذهبي. وسارعوا إلى إصدار أحكام كليّة قطعيّة بإزاء كتاب نهج البلاغة، تبيّن رغبتهم الحقيقيّة في إلغاء الآخر وإقصائه والحط من قيمته ومنزلته.( ينظر ص 186)

ثانيا / نسق الإنكار

لأن الإنكار أصعب من التشكيك بطبيعة الحال، فعددُ المنكرين لصحة نسبة نهج البلاغة للإمام علي (ع) سيكون أقل من المشككين، وهو ما يحاول الباحث الوقوف عنده في هذا المبحث منطلقا من النص نفسه نحو الثقافة التي أنتجته بغية فهم عناصرها المختلفة التي تعين على كشف المعنى الذي لا يفهم بعيدا عنها، ولأن النقد الثقافي - مرتكز هذه الدراسة -  لم يعتن بكشف الإيجابيّات والسلبيّات لذاتها، بل حاول النفاذ منها إلى ما ورائها، لذا يحدّد الباحث مهمّته بالقول: (( سنحاول في هذا الفصل متابعة أقوال اولئك المُنكرين، ووضعها في سياقاتها التاريخية والسياسية والثقافية... ثم البحث في المرجعيّات الثقافيّة التي تغذّى منها المنكرون، لنتلمّس منها الدوافع الحقيقية لهذا الإنكار، والأنساق الحاكمة التي تقف وراء تلك المواقف)) فيبدأ انطلاقا من هذه المسلّمة بأول المنكرين لصحّة نسبة نهج البلاغة لصاحبه الحقيقي الإمام علي (ع) وهو:

أولاً: الذهبي(ت748هـ-1347م)

تلقّف الذهبي شبهة ابن خلّكان التي لم يورد فيها رأيا قاطعا ليصل بهذه الشبهة حدّ الإنكار حينما أورد في ترجمته للشريف المرتضى: ((علي بن الحسين العلوي الحسيني الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزلي، صاحب التصانيف وهو المتّهم بوضع كتاب نهج البلاغة، وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتاب نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنَفَس القرشيين الصحابة وبنَفَس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل)). ولعلّ التعريض بالصحابة الذي يسوقه الذهبي هو أقوى حجّجه التي قد تجد مصداقا لها من خلال الخطبة المعروفة بـ( الشقشقيّة ) كما يرى المعموري ( ص 111 ) الذي ذهب إلى أنّ هذه الخطبة معروفة قبل زمن الرضي كما تثبت السياقات التاريخيّة فقد رواها البرقي المتوفى سنة 274هـ والجبائي المعتزلي المتوفى سنة 303هـ، وسواهم من اللاحقين.

ويجد الباحث إن ذهنيّة القائلين برفض التعريض بالصحابة قائمة على تنزيههم عن كل نزاع أو اختلاف، وهي ذهنيّة قائمة على عصمة الصحابة، ومن ثم وجوب عدم التعرض لهم، وضرورة التسليم لهم، وهي فكرة أوجدها الأمويون، ليصرفوا الناس عن نقدهم ومعارضتهم. (ص 118) وإلّا فالصحابة اختلفوا عند احتضار الرسول (ص) وعند السقيفة وسوى ذلك. ولذا فالتذرع بمسألة التعريض بالصحابة مجرد أمر لا قيمة قيمة له من الناحية العلمية ولا المنطقية ولا التاريخية، وإنّ ما صدر عن الإمام، إنما هو (( نتاج طبيعي لتلك الأحداث وانعكاس للواقع النفسي الذي عاشه الإمام(ع) من حرمان ومرارة وإقصاء، وما حدث بينه وبينهم من عنت واختلاف، مع إنه لم يظهر ذلك الاختلاف على نطاق واسع؛ لأنه آثر مصلحة الإسلام، ولم يكن في تعريضه بالخلفاء سب أو شتم، وإنما هو نقد بنّاء، ووصف للأفعال بلغة مهذَّبة، وألفاظ لم يخرج بها عن حق)) كما يذهب الباحث.

إنّ الذهبي أول المنكرين له مواقف عديدة دعته إلى إعلان إنكاره هذا، فهو يضعف الأحاديث التي تذكر فضل علي على من سواه، وينعت أصحاب علي وشيعته بالرافضة، وهو الذي أورد خبرا من دون سند مفاده أن محمدا بن الحنفية والحسين(ع) وعبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، قد عمدوا- ليشتفوا من ابن ملجم- إلى قطع يديه ورجليه وفقء عينيه، في إشارة ضمنية إلى أنهم قد مثَّلوا في قتلهم ابن ملجم، مع علمهم بنهي الرسول عن التمثيل ولو بالكلب العقور! (ص123).

ولعل كلّ هذا تأكيد على أنّ إنكار الذهبي لنسبة الكتاب لم يكن بريئاً من الدوافع العصبيّة والمذهبيّة، والذهبي بالنتيجة، لم يكن معتدلاً ولا وفيّاً لمضمون كتابه الذي سمّاه(ميزان الاعتدال في نقد الرجال)، بل كان متعصباً في موقفه، وقد ساقته تلك القناعات التي عرضها الباحث إلى إنكار نسبة نهج البلاغة إلى الإمام عليّ(ع)؛ لأن فيه أخباراً تتعارض مع قناعاته بالصحابة، وتكشف عن كونهم أناساً قد يصدر عنهم الخطأ والزلل، كما يصدر عنهم الصواب والعدل مثل باقي الناس.

ثانياً: صلاح الدين الصفدي(ت764هـ-1362م )

يقول الصفدي متحدّثاً عن النهج وجامعه الشريف الرضي: ((اختلف في كتاب نهج البلاغة هل هو وضعه أو وضع أخيه الرضي)) وفي جملته تصريح واضح بكون النهج موضوعاً على أمير المؤمنين.

ويتابع الباحث أسلوب الصفدي في كتابه المعروف ( الوافي بالوفيات ) فيجده حريصاً على تقديم أبي بكر وعمر بن الخطاب على عليّ(ع)، ومن ذلك قوله بأسبقية إسلام أبي بكر على سواه، وحرصه على إيراد أخبار في فضل الخليفتين على ألسِنَة الأئمة (الباقر والصادق - ع - ) ليكون ذلك حجّة على الشيعة، وإيراده خبراً مرويا عن أبي هريرة أن النبي(ص)  قال: (( لو كان بعدي نبي لكان عمر)). وسوى ذلك من أمور أخرى كثيرة.

وينتهي الدكتور أحمد عبيس إلى إن هذا المنهج الذي اختطه الصفدي وأمثاله من العلماء في زيادة فضائل أئمتهم وأعلامهم، وتجاوز فضائل أقرانهم، منهج يكشف مقدار العصبية المذهبية المتحكّمة في النفوس، وهو ما قاد الصفدي إلى (( إنكار نسبة نصوص النهج إلى الإمام عليّ(ع)؛ لأن فيه تعريضاً بأئمته الذين اقتنصوا الخلافة من عليّ(ع) وهو أحقّ بها)) ( ص 126).

ثالثاً: ابن حجر العسقلاني(ت852هـ-1446م )

ينقل العسقلاني متابعاً الذهبي في أقواله ومضيفاً عليها ما شاء أن يضيف فيدعي: أن الشريف المرتضى هو من وضع نهج البلاغة، ممّا يتبيّن لنا أنّ قضية الوضع على أمير المؤمنين(ع) قضية مفروغ منها، أما الواضع فهو المرتضى! (ص 124).

ويقف الباحث على عبارات العسقلاني للكشف عن مرجعيّاته الثقافيّة المُنتجة لنصوصه، ولمعرفة غرضه من إنكاره، فيجد: (( أن ممّا يبعث الريبة في قبول إنكاره بنسبة النهج، ما وُجِد في كلامه من موقف صريح ضد الشيعة. ذكره في مقدمة كتابه(لسان الميزان) إذ عدَّ التشيّع بدعة كبرى، فيقول: (( البدعة الكبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فهؤلاء [ أي الروافض] لا يُقبل حديثُهم، فالكذب شعارهم والتقية دثارهم، فكيف يُقبَلُ من هذا حاله؟)).

وينتهي الباحث إلى أن هذه العبارات لا يمكن أن تصدر عن رجل منصفٍ هدفه الترجمة للأعلام، إنما عن رجل متعصبٍ على الشيعة ورموزها، فلا يستغرب أن يصدر عنه إنكار لكتاب مهمٍّ من كتب أعلام الشيعة، لاسيّما والكتاب يحوي ما يناقض معتقدات العسقلاني المذهبيّة. ( ص 127).

رابعاً: يعقوب صرّوف(ت1346هـ- 1927م):

لكون طبيعة الثقافة العربيّة هي ثقافة مطابقة وليست ثقافة اختلاف فإنّ نسق الإنكار تجسّدا في كلام يعقوب صرّوف المنكر الرابع كما يجده الباحث، فصروف كتب مقالا لمجلة المقتطف بعنوان(عهد الإمام عليّ وكتاب السلطان بايزيد الثاني)، إذ قال في مقاله المذكور: ((لا يخفى أنّ عهد الإمام عليّ هذا واردٌ في نهج البلاغة، ونهج البلاغة كلُّه مظنون في نسبته إلى الإمام، ويقال: إنه من وضع الشريف الرضي و هذه النسخة المخطوطة تدل على أن البعض من كتّاب العربية يستحلون أن يقحموا أقوالهم وآراءهم بين أقوال غيرهم وينسبونها إليه، ومن كان كذلك لا يكبر عليه أن يؤلف كتابا وينسبه إلى غيره مبالغةً في إكرامه وإثباتا لغرض يقصده)).

وفي هذا المقال يجرى صرّوف مقارنة بين نسخة من صورة عهد الإمام(ع) لمالك الأشتر، كتبت سنة 858هـ للسلطان بايزيد الثاني، وبين صورة العهد الموجودة في(نهج البلاغة) حالياً. واحتجَّ بطول العهد ونسبته للإمام(ع) فقال: ((وسواء كتب هذا العهد الإمام عليّ نفسه أو كتبه آخر ونسبه إليه، فيبعد عن التصديق أن يكتبه مطولاً مسهباً على هذه الصورة التي نراه فيها الآن [...] لا يكتبه إلاّ رجل متأنق حرفته صوغ الكلام، لا أميرٌ مشغولٌ بالحرب والجهاد كما كان الإمام؛ وقِس عليه في كل الخطب المنسوبة إليه، والأشعار التي قيل إنه نظمها)).

ولعل الإنكار واضحاً هنا برأي الباحث من صروف الذي اعتمد هذه المقارنة في إنكاره نسبة نصوص نهج البلاغة إلى الإمام عليّ(ع). ويخرّج الباحث مواقف صروف هذه في ظلّ انتمائه إلى الفكر اليهودي، فقد أصدر مجلة(المقتطف) التي حرص فيها على نشر الثقافة الغربيّة بما فيها من أفكار نصرانيّة، وانضمّ إلى التنظيمات السرية التي كانت بمثابة العمود الفقري للنشاط الماسوني في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين. ( ص131).

خامساً: أحمد أمين(ت1374هـ -1954م)

ومن المحدثين الذين أنكروا نسبة نصوص النهج إلى الإمام عليّ(ع) أحمد أمين، عضو المجمع اللغوي في القاهرة والمجمع العلمي في دمشق، الذي صار أستاذا في جامعة القاهرة وعميدا لكلية الآداب، ورأس لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر.

يقول في كتابه(فجر الإسلام) عن النهج وصاحبه: ونسبوا إليه نهج البلاغة، وهو يشتمل على الكثير من الخطب والأدعية والكتب والمواعظ والحكم، وقد شكَّ في مجموعها النقاد قديماً وحديثاً، كالصفدي وهوار، واستوجب هذا الشك أموراً: ما في بعضه من سجع منمّق، وصناعة لفظية لا تعرف لذلك العصر، وما فيه من تعبيرات، إنّما حدثت بعد أن نقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية، وبعد أن دُوِّنَت العلوم[...] هذا إلى ما فيه من معان دقيقة مُنمَّقة على أسلوب لم يعرف إلاّ في العصر العباسي [...] كل هذا يجعل من العسير على المؤرخ الناقد وصف شخصيّته العلميّة وصفاً يطمئن إليه، أيُّ ما في نهج البلاغة لعليّ؟ وأيّها ليس له؟

يجد عبيس في عبارة أمين إعماماً من جهتين ((الأولى: إنّ التشكيك شمل كلام الإمام(ع) جميعه والثانية: إنّه صدر- بزعمه- من النقاد جميعهم قديما وحديثا، لا بعضهم ولا جُلُّهم بل كلهم وهو إعمام ينكره الواقع التاريخي والموروث الأدبي)).

كما يجد في عبارة أمين متابعة للمستشرقين ومنهم (هوار) الوارد اسمه بعد الصفدي  والمنحاز إلى معاوية ويزيد في عدائهما لعلي وأولاده فيما بعد.

ورغم ادعاء أحمد أمين أنه لا يحمل تعصّباً لسنة ولا لشيعة فإنّ الباحث يجد خلاف ذلك، إذ يقول أمين عن نظرية المهدي عند الشيعة فيقول: ((إنّ حديث المهدي هذا حديث خرافة، وقد ترتبت عليه نتائج خطيرة في حياة المسلمين[...] وهي نظرية لا تتفق وسُنَّة الله في خلقه ولا تتفق والعقل الصحيح))، (ص 134) كما أنكر وجود أحاديث في المهدي فقال: ((ولم يرو البخاري ومسلم شيئا من أحاديث المهدي مما يدلّ على عدم صحتها، وإنما ذكرها الترمذي وأبو داود وابن ماجة وغيرهم)).

ويبلغ التطرف عند أمين شأواً بعيدا، فيقول في كتابه ضحى الإسلام: ((  إنَّ التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام[...] وهكذا هم الشيعة الضُلّال، فإنّهم معاول هدم للإسلام في كل مكان، وفي كل زمان)). وينتهي الباحث إلى إن هذا الكلام المتطرّف لا يليق بعالم، ولا برجل قضاء وأستاذ جامعي. غير أنّ رجال العلم والمعرفة علماء في ميادينهم، لكن الأمر إذا ما تعلّق بالعقيدة المذهبية ينسلخون عن علميّتهم، لتخرج نوازعهم المذهبيّة المتطرّفة، وكأنّهم في هيأة مغايرة لصورتهم المهنيّة أو لتخصصهم المعرفي.

ثالثا / نسق التأكيد

ينطوي نسق التأكيد على أمر بالغ الخطورة، وهو ما ذهب إليه الباحث مفترضا أن هذا النسق جاء ردّة فعل طبيعيّة على النسقين السابقين، وقد جاءت أساليب الكتّاب والعلماء المندرجين تحت خانة هذا النسق متنوعة في الأساليب، فمنهم من عمد إلى استقصاء مصادر نصوص نهج البلاغة، ومنهم من حاول استقصاء كلام الإمام(ع) في غير النهج للتدليل على كثرته، ومنهم من احتجّ بأدلة عقلية أو نقلية، وكلّ هذه الأمور تصبّ في مجال الدفاع عن نهج البلاغة، وإثبات نسبته إلى الإمام علي(ع)، أما الأعلام الذين يندرجون تحت قائمة هذا النسق، فهم: 

أولا: الهادي كاشف الغطاء(ت1361هـ -1942م)

كتب كاشف الغطاء كتابين يردّ فيهما تهم المنكرين والمشكّكين، والكتابان هما: (مستدرك نهج البلاغة) و (مدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات عنه).

وقد حاول كاشف الغطاء أن يحدّد أسباب التشكيك والإنكار من خلال كتابيه فجعل ذلك في عدة أمور منها: إمّا أن يوجد في الكتاب ما يتنافى مع مذهب المُنكِر ويقدح في عقائده ولا يمكنه الالتزام به ولا تأويله وصرفه عن ظاهره، أو أن يكون المُنكِر مريض القلب فيعمد إلى جحد أيّة مكرمة تضاف إلى الإمام، أو الجهل بمقام من تُنسب إليه مندرجات ذلك الكتاب وعدم عرفان قدره وعظم شأنه، أو حب الشذوذ والافتتان بالمخالفة لأمر سياسي أو لغريزة في النفوس، أوعدم الوقوف على مصادر الخطب، أو عدم المعرفة بمنهج الشريف الرضي في الجمع والاختيار، وهو ما جعل الباحث يضعه على قائمة المؤكّدين لصحة نسبة نهج البلاغة للإمام علي.

ثانيا: هبة الدين الشهرستاني(ت1387هـ-1967م)

لم يختلف هبة الدين الشهرستاني عن سابقه في تقديم أدلّته التي تناغمت مع أدلّة كاشف الغطاء من خلال كتابه (ما هو نهج البلاغة؟) وربّما اختلف عنه  في دفاعه عن الرضي ونزاهته عن الوضع والتحريف، وربّما يكون بذلك قد (( أصَّلَ قضية مهمّة طالما ردّدها المشككون والمنكرون، وهي قضية صحة جمع الرضي لكلام جدِّه عليِّ ابن أبي طالب(ع)، وهو فعل صدر عن نسق تأكيد نسبة نصوص النهج إلى الإمام)) ( ص147) .

ويتطرّق الشهرستاني إلى أسباب تشكيك البعض من مفكري أخواننا السُنّة بنهج البلاغة فيجدها - بحسب الباحث- عائدة إلى مجرّد تأثّرهم ممّا في الخطبة الشقشقيّة من مضامين، في حين أن العديد من أدباء عصر الشريف الرضي قد أثبتوها في مدوّناتهم وكتبهم، وأرسلوا نسبتها إلى الإمام علي(ع) إرسال المسلّمات، كالوزير أبي سعيد منصور الآبي(ت 422هـ)، في كتابيه نثر الدر ونزهة الأديب مثلا، ولو كانت الشقشقيّة وليدة عصرهم لعرفوا أمرها وتثبّتوا في إسنادها.

وينتهي الباحث إلى أن ما قدّمه الشهرستاني من أدلّة مختلفة ومن قناعات خاصة وضعه في ميزان الاعتدال، إذ لم يكن متعصّباً في موقف من المواقف، بل كان معتدلاً، فقد (( قيّد قبوله بالنهج بإقامة الدليل، وقَبِلَ خطبة الإمام(ع) في عمر بن الخطاب، ولم يلجأ إلى تأويلات بعيدة أو فاسدة، ليأتي هذا كله منسجما مع ما عرف  من صفاته الكريمة وسيرته وعلمه)) (ص 153 ).

ثالثا: عبد الزهراء الحسيني الخطيب(ت1414هـ-1993م)

وهو محقّق معروف من محقّقي الشيعة، ومؤلف كتاب: (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) المتضمن لتاريخ نهج البلاغة، ومصادره، والتحقق من أصوله وقيمته العلميّة والأدبيّة والدينيّة، والكتاب كبير نوعاً ما، فهو في أربعة أجزاء الجزء الأول في وصف الكتاب وفي كلام الإمام وفصاحته، ودور الشريف الرضي في الجمع والاستقصاء والاختيار، أمّا الأجزاء الثلاثة المتبقّية، فجهده فيها هو تأكيد نصوص النهج بذكر مصادرها ورُواتها.

وقد حاول الخطيب أن يردّ حجج المشككين في كتابه هذا، فابتدأ بابن خلكان بوصفه أول من أورد الشك بنهج البلاغة، فحكم بتخطئته مطالباً بأسماء من اختلفوا في نهج البلاغة قبله، واحتجّ عليه بما ورد من احالات في كتب الشريف الرضي( المجازات النبوية، وحقائق التأويل، وخصائص الأئمة )على نهج البلاغة، وإحالات نهج البلاغة على هذه الكتب، علاوةً على صفات الرضي التي تمنع احتمال الوضع أو التزوير.

وأطال الخطيب حديثه في شبهة عدم وجود لفظة (الوصي) قبل نهج البلاغة التي ذكرها سيّد كيلاني مارّ الذكر، فأثبت وجودها في كتب التفسير والحديث والسِّير بسبعين موضعاً في صدر الإسلام؛ منها أربعون حديثا نبويّاً، وخمسة مواضع من كلام الإمام علي، وحديث للإمام الحسن وآخر للإمام الحسين، وثلاثة وعشرون موضعاً شعريّاً، ثم ذكر عشرة مواضع أُخر قبل صدور النهج، وذكر الخطيب كذلك، أنّ هناك من ألّف كُتباً مخصوصة في الوصيّة، لِيخلص بعد ذلك إلى أنّ هذه الشبهة باطلة، وهي أوهى من بيت العنكبوت. ( ينظر ص 156).

إن السياق الذي كان فيه الخطيب في موقف المؤكّد لنسبة نصوص نهج البلاغة إلى الإمام عليّ(ع) والمدافع عنه بوسائل متعددة، أبرزها الرد على الشبهات، والأهمّ استقصاؤه مصادر كلام الإمام في نهج البلاغة، هو سياق يحدّد موقفه الكلي واطمئنانه التام بصحّة نسبة ما روي في النهج عن أمير المؤمنين عليه السلام، وأنّه من مؤلّفات الرضي الجامع له من بطون الكتب .

رابعاً: محمد حسن آل ياسين (ولادته1350هـ- 1931م)

كتب آل ياسين كتيباً بعنوان(نهج البلاغة. . لمن؟) وهو ردّ على مقالات نالت من صحة نسبة نهج البلاغة للإمام (ع)، وقد سبق ذكرها، وقد بيّن آل ياسين غايته من تأليف هذا الكتيب فقال: (( كلّ أملي أنْ يكون لهذا الكتيب الصغير ما يكون لكوّة النور من مجال ودور، إحقاقاً للحق، وكشفاً للغطاء عن الحقيقة، وإزالةً لظلام عهود العصبيّة والهوى المقيت)).

وربّما لم يستطع آل ياسين بسبب صغر حجم كتابه الذي كان بالأصل بحثاً منشوراً في إحدى المجلات المحلّيّة أن يتجاوز ما ذكره الآخرون الذين سبقوه في هذا المضمار، غير أنّه ظلّ مدافعاً عن صحة نسبة النهج للإمام على بسبب تأثير انتماءاته للمؤسسة الدينيّة الشيعيّة لكونه أحد الباحثين المحسوبين عليها، كما نعته الباحث بذلك، (ينظر، ص 162).

 خامسا: محمد حسين الجلالي(ولادته1363هـ- 1943م)

يورد محمد حسين الجلالي في مقدّمة كتابه: (دراسة حول نهج البلاغة) الشبهات التي لخّصها أحمد زكي صفوت في كتابه: (علي ابن أبي طالب) من أقوال المشكّكين والمنكرين، محاولاً الردّ عليها، ، مثل ردّه على رفض صفوت صدور التعريض بالصحابة عن عليّ(ع)، بأنّ في ذلك تغافلاً عن أحداث التاريخ الإسلامي في عصر الرسالة منذ وفاة النبي(ص)، وما رافق ذلك في السقيفة من مشاهدات تؤكد تطابق وصف الإمام عليّ(ع) على الصحابة. (ص163 ).

وعن شبهة الوصف الدقيق والسجع يجيب الجلالي بأنّ الكُتَّاب إذا كانوا ينزعون إلى السجع، والقرآن الكريم لا يخلو من هذه الحِلية في آيات وفيرة، فلماذا لا يُطمَأن إلى الكلام المسجوع في نهج البلاغة، ومعلوم أنّ منابع الثقافة والفكر للإمام(ع)  كانت مستمدّة من القرآن الكريم. (ص 164)، كما ردّ على شبهة اختلاف الأسلوب في نهج البلاغة بكون الخطب مثل كلّ المحاورات البشرية تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وحالات المتكلم وكذلك حالات المخاطبين، فكلّ حالة تقتضي أسلوباً خاصاً، فلا يمكن أنْ يكون أسلوب الخطبة في صلاة الجمعة نفس الأسلوب في التعبئة العامة للحرب، وهكذا دواليك، لينتهي الباحث إلى أنّ الجلالي واحدٌ من المعبّرين عن نسق التأكيد من خلال كتابه المذكور.

 سادساً: عبد الله نعمة (ولادته1371هـ- 1951م)

يبيّن عبد الله النعمة وهو لبناني الأصل من خلال مقدمة كتابه: (مصادر نهج البلاغة) أنّ السبب الرئيس لاتّهام الرضي بوضع نهج البلاغة هو عدم توثيقه النصوص بمصادر، لذلك كان عمله - مع اعترافه بصعوبة مهمّته - البحث عن مصادر لنصوص نهج البلاغة في كتب الحديث والأدب والتاريخ وسوى ذلك.

وقد استطاع مع ذلك  توثيق(180) خطبة من أصل (242)، و(60) كتاباً ورسالة ووصيّة من أصل(78)، و(200) كلمة من الحكم والأمثال من أصل(498) كما يرى الباحث. وقد تنبّه عبد الله نعمة إلى قضيّة وجدها الباحث مصداقا لنسق التعصّب الديني الأعمى، وهذه القضية تمثّلت بكون الشك أو الإنكار قد صدر عن وجهة نظر غير شيعية، وأنّ الدفاع عن نهج البلاغة قد صدر عن وجهة نظر شيعية. ( ص 167 ).

غير أن الباحث ما لبث أن استدرك قائلا: (( أن الدفاع عن نهج البلاغة قد صدر عن رجال من غير الشيعة، منهم المعتزلي ابن أبي الحديد، ومن أخواننا السُنّة محمد عبده وصبحي الصالح اللذين سلَّما بصحّته، والمسيحي جورج جرداق وغيرهم)).

ولعلّ طروحات النعمة تتلخص في ثلاثة أسباب، الأول: إنّ راوي نهج البلاغة شيعي رافضي، والشيعي لا تقبل روايته. والثاني: إنّ النهج تضمّن أموراً تخالف معتقدات الآخرين ومفاهيمهم، ولاسيّما الخلافة والإمامة والعصمة والقضاء والقدر والجبر والاختيار والعدل وغيرها، مما لا يتفق والأفكار والمفاهيم السائدة عند غير الشيعة. والثالث: اشتمال النهج على ما يرونه غمزاً ولمزاً في بعض الصحابة، ممّا يتناقض مع الهالة القدسيّة التي يجعلونها حولهم. (ينظر، ص169). ولذا كانت ردوده وحججه التي فنّد مزاعم المنكرين والمشكّكين كفيلة بأن تجعله واحداً من المنضوين تحت لواء تأكيد صحّة كون نهج البلاغة للإمام علي .

سابعا: محسن باقر الموسوي(ولادته1373هـ-1952م)

أديب ومثقف كربلائي له مجموعة كتب إسلاميّة يهمّنا منها كتابه: (المدخل إلى علوم نهج البلاغة)، وهو لا يختلف من حيث الغاية من التأليف ومن حيث طريقة المعالجة عن سابقاته من الكتب التي عرضنا لها بإيجاز شديد.

ثامنا: عبد الهادي الشريفي(ولادته1373هـ-1953م)

في كتابه الموسوم: (تهذيب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد) يركز الشريفي على شرح ابن أبي الحديد كما يبيّن عنوان كتابه، وما دامت ذريعة المشكّكين الأساس هي افتقار نصوص النهج إلى سند أو مصدر، فقد حرص الشريفي على ذكر المصادر المدونة التي ذكرها الشريف الرضي في كتابه ثم المصادر المروية بالسند، مُبيّناً أنّ هذه المصادر إنّما ذكرها الرضي لِمَا لم تتحقّق نسبته إلى أمير المؤمنين(ع)، أمّا غير ذلك فإنّه على ثقة منه ويقين. ( ص 179).وهكذا صبّت جهود الشريفي في مسار قضية واحدة، وهي تأكيد نسبة نصوص نهج البلاغة إلى الإمام عليّ(ع) ذي الأسلوب الذي فاق أسلوب البلغاء، وما هذه الشبهات التي أثيرت حول النهج إلاّ تجلّيات للعداء المتأصّل في نفوس المبغضين للرسول(ص) ولآل بيته الأطهار(ع) قديماً وحديثاً، بحسب الباحث الدكتور أحمد عبيس الذي ينتهي من هذا الباب ناعتاً الشبهات التي تعددت عنواناتها، بالاختباء خلف نسق خفي حاكم، مُتأتٍّ من تداخل حقلي الدين والسياسة، ويعني بذلك التعصب المذهبي الذي يقود المرء إلى التحجر بدافع المحافظة على المعتقدات الدينية ودفع الخطر عنها، ومن ضمن ذلك يأتي الإقرار بمشروعيّة سلطة الخلفاء الثلاثة قبل الإمام عليّ، وسلطة الأمويين ومن بعدهم.

وبعد عرض هذا الكتاب الذي قدّم فيه الباحث كل ما يستطيع تقديمه من جهد وكدٍّ شخصي يُحمد عليه، لنا أن نسأل هل قدّم البحث دليلاً ملموساً ( يقينيّاً ) يمكن الاطمئنان إليه بعد أن عرض للأنساق الفكرية المتصارعة لإثبات صحة نسبة نهج البلاغة للإمام (ع) ولسلب هذه النسبة وانتزاعها بغض النظر عن الدوافع والغايات والمقاصد، وهل يمكن للنظريّة الأدبيّة ولمناهجها الحديثة أن تعيننا في الوصول إلى هذا الدليل الملموس ( اليقيني ) الذي بدا لنا - ونحن نقرأ هذا الكتاب - كالسراب الذي يحسبه الباحث ماء وهو يدور في حومة هذا الصراع الفكري دون أن يقدّم دليلاً ماديّاً واحداً بسبب استحالة الوصول إلى هذا الدليل الذي تفصلنا عنه قرون طويلة، بمعنى آخر هل تستطيع - على سبيل المثال -  الأسلوبية الإحصائية بوصفها منهجاً علمياً أن تعيننا على الاقتراب أكثر من هذا الدليل الذي أجهد الباحث نفسه من أجل الظفر به، وذلك من خلال قراءة أسلوب النهج قراءة أسلوبيّة إحصائيّة ومقارنتها بعد ذلك بالأسلوب النثري لدى الشريف الرضي من خلال كتبه التي يعرفها الباحث جيداً، من خلال نوعية التراكيب ومستويات التصوير، وإيقاع الأفكار، وطول الجمل، ونوعيّتها من حيث الأسميّة والفعليّة وما إلى ذلك من الأمور، وهو ما نتمنى أن ينبري له باحث آخر يشمّر عن ساعديه ليكمل الجهد الذي ابتدأه الدكتور أحمد عبيس، لكن بمنهجيّة وبطريقة أخرى لا تدع مجالاً للسجال الأدبي ذي الطابع العقائدي أو السياسي أن يعلو على المنهجيّات المنضبطة والقادرة على الوصول إلى أحكام شبه يقينيّة.

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك