التصوف في الميزان..


تتّفق المذاهب الإسلامية على أنّ كل ما ينطبق عليه الصدق والإخلاص فهو من الإسلام في الصميم, وكل ما ينطبق عليه الرياء والنفاق فليس من الإسلام في شيء, وبهذا المقياس وحده يجب أن نقيس التصوّف وكلّ موضوع حديث من الوجهة الدينيّة.

فهل التصوّف من الإسلام؟ وما علاقته بالتشيّع؟ وهل هو مرتبة من مراتب العرفان؟

الى غير ذلك من الشبهات نطرحها على أكثر من باحثٍ ومفكّرٍ إسلاميّ، لتتبيّن لنا حقيقة التصوّف الذي امتدّ في كلّ المذاهب تقريباً..

 

إذ يقول السيد جعفر مرتضى العاملي في جوابه على الفَرْق بين العرفان والتصوف:

إن العرفان على قسمين:

أحدهما: العرفان النظري، وهو يُعْنى بتفسير الوجود ويبحث عن الله، وعن العالم وعن الإنسان، ولكنه يعتمد في الوصول إلى الحقيقة وفي الاستدلال عليها على الكشف، ثم يوضح بلغة العقل، ما يشاهده بالقلب.

ويرى العارف أن وجود الله هو الأساس، وكل ما عداه ما هو إلا أسماء، وصفات، وشؤون، وتجليات له تعالى..

الثاني: العرفان العملي وهو الجانب الذي يتعلق بعلاقة الإنسان مع نفسه، ومع ربه، ومع العالم. وهذا ما يسمى بالسير والسلوك، الموصل إلى قمة الإنسانية، وهو التوحيد التام، الذي يطوي إليه المنازل والمراحل في سلوكه هذا..

والتوحيد الحقيقي عند العارف هو أن يدرك، أو فقل أن يصل إلى مرحلة لا يرى فيها إلا الله، أو أن الوجود الحقيقي هو لله، وكل ما عداه فليس سوى مظهر، وليس بوجود.

وإنما يصل العارف إلى هذه المرحلة بالمجاهدة، وتصفية النفس، وتهذيب الأخلاق، لا بالاستدلال العقلي، والعارف يربي نفسه على التزام حدود الشريعة، وعلى أن يستفيد منها في ترتيب برنامج رياضته الروحية، من خلال اهتمامه بالعبادات والمستحبات، وبعد الالتزام التام بأحكام الشرع، لكي يصل من خلال ذلك إلى الله سبحانه..

أما الصوفية، فهم أناس يعرفون على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم بلبس الصوف إظهاراً منهم للتقشف والزهد في الدنيا..

ولهم تأويلات عجيبة للآيات القرآنية، وتنسب إليهم اعتقادات باطلة، وأقاويل سقيمة.

ولعل من جملة ما يميزهم كثيراً عن أهل العرفان: أنهم لا يهتمون كثيراً بالرياضة والسلوك ولا يهتمون بالعبادة، ولا يجهدون أنفسهم فيها، ولعل ذلك بسبب أنهم يرون أن الجذب الإلهي، ونيل المراتب، قد يشمل حتى من لم يطو أي مرحلة من مراحل السير والسلوك إلى الله، فيصل من خلال ذلك الجذب إلى درجة المعرفة والشهود، من دون بذل أي مجهود.

ويسمي الصوفية طريقة السالك إلى الله؛ بالترقي لأنها سير من الأدنى إلى الأعلى، وطريقة المتصوفة بالتدلي، والسالك العارف يصل إلى الله بدلالة آثاره، وأسمائه وصفاته، والصوفي يصل إلى الله بالجذب، والكشف، وينتقل منه إلى شهود صفاته، ومعرفة أسمائه وآثاره، وهذا هو الذي يستحق أن يكون شيخاً وولياً..

وإن كان بعض الصوفية يرى أن العارف أيضاً السالك قد يصل إلى درجة الولاية والشيخية..

وهم يعتقدون في أنفسهم ـ كما يقول السراج الطوسي ـ: « أنهم أمناء الله عز وجل في أرضه، وخزنة أسراره وعلمه، وصفوته من خلقه، فهم عباده المخلصون، وأولياؤه المتقون، وأحباؤه الصادقون الصالحون، منهم الأخيار والسابقون، والأبرار والمقربون، والبدلاء والصديقون، هم الذين أحيى الله بمعرفته قلوبهم، وزين بخدمته جوارحهم، وبهج بذكره ألسنتهم، وطهر بمراقبته أسرارهم، سبق لهم منه الحسنى، بحسن الرعاية، ودوام العناية، فتوجهم بتاج الولاية ».

ثم يستمر في كلامه: إلى أن طبق عليهم قوله تعالى: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ... ﴾ النمل/59.

فتجد أنهم يجعلون لأوليائهم نفس المقامات التي جعلها الله لأئمة أهل البيت ( عليهم السلام )..

وعلى كل حال، نقول: من أراد أن يلم ببعض ما ينسب إلى هؤلاء الناس من ترهات وأباطيل، ومن تصرفات وأقاويل، وأضاليل، فليراجع كتاب: فضايح الصوفية، وكتاب تنبيه الغافلين..

 

ويقول السيد حسين الشاهرودي في بيان رأيه بالتصوّف:

الصوفيّة فرقة منحرفة عن خط الأئمة المعصومين عليهم السلام، بل أصلُ تأسيس هذه الفرقة كان لأجل اطفاء نور الأئمة عليهم السلام، ومنع الناس من الاهتداء بهم والوصول الى ابوابهم والاستضاءة بنورهم، ولأجل ذلك وردت روايات كثيرة في ذم الصوفيّة، بل يظهر من بعض الروايات أن لفظ الصوفي يشتمل على نقص في الدين حيث ورد في حق احمد بن هلال العبرتائي قول الإمام (ع): (احذروا الصوفي المتصنع احمد بن هلال)

واليك بعض الروايات الواردة في هذه الفرقة:

1. في وصية النبي (ص) لأبي ذر الغفاري رحمه الله قال: يا أبا ذر، يكون في آخر الزمان قوم يلبسون الصوف في صيفهم وشتائهم، يرون ان الفضل بذلك على غيرهم، اولئك تلعنهم ملائكة السماوات والأرض (بحار الأنوار ج77 ص91)

2. عن الرضا عليه السلام: لا يقول بالتصوف أحد إلا لخدعة أو ضلالة أو حماقة، وأمّا من سمّى نفسه صوفياً للتقية فلا اثم عليه.

وفي رواية أخرى عنه بزيادة قوله: وعلامته ان يكتفي بالتسمية ولا يقول بشيء من عقائدهم الباطلة.

3. عن قرب الاسناد للشيخ الاقدم علي بن بابويه القمي، بسنده عن ابي محمد العسكري (ع) انه قال: سُئِلَ ابو عبد الله (ع) عن حال ابي هاشم الكوفي، فقال (ع) انه كان فاسد العقيدة جداً، وهو الذي ابتدع مذهباً يقال له التصوف، وجعله مفراً لعقيدته الخبيثة.

4. عن البزنطي واسماعيل بن بزيع عن الرضا (ع) قال: من ذكر عنده الصوفية ولم ينكرهم بلسانه وقلبه فليس منا، ومن أنكرهم فكأنما جاهد الكفار بين يدي رسول الله (ص).

5. عن البزنطي انه قال: قال رجل من أصحابنا للصادق جعفر بن محمد (ع): قد ظهر في هذا الزمان قوم يقال لهم الصوفية، فما تقول فيهم؟

قال (ع): انهم اعداؤنا فمن مال اليهم فهو منهم، ويحشر معهم، وسيكون أقوام يدّعون حبَّنا ويميلون اليهم ويتشبّهون بهم، ويلقِّبون أنفسهم بلقبهم، ويؤوِّلون أقوالهم، الا فمن مال اليهم فليس منّا، وأنا منه براء، ومن أنكرهم وردّ عليهم كان كمن جاهد الكفّار بين يدي رسول الله (ص) (سفينة البحار مادة صوف).

 

ويقول الشيخ علي الكوراني في أسباب تمدّد التصوّف بين الجماهير الإسلاميّة:

القضية الأكبر في الإسلام، أو قضية الإسلام من أكبر زواياها، هي أن الله تعالى، رب العالمين وخالق الأكوان والإنسان، قد تجلى لرجل من أبناء إبراهيم من ذرية إسماعيل صلى الله عليه وآله، وأرسل له سيد الملائكة وأنزل عليه رسالة، فكذبه قومه وظهرت منه المعجزات وآمن به قسم من الناس وحارب أعداءه وانتصر، وكوَّن أمةً، وأحدث هذا المد.

هذه الحقيقة أثارت في نفوس الشعوب التي دخلت في الإسلام قضية الله تعالى وعبادته، والإتجاه الى طلب رضاه والنجاة من عذابه والخلود في جنات النعيم، فصارت القضية الأولى المطروحة بإلحاح والمعاشة بعمق عند أصحاب النفوس الصافية من مثقفي تلك الشعب وعوامها.

وهنا انفتح باب الإجتهاد على مصراعيه، في كيفية معرفة الله تعالى وعبادته ونشأ التصوف وصار موجة في الشعوب المسلمة، وتعددت فيه الإجتهادات وتأثرت بثقافات الأديان الأخرى والوثنيات، وبكل لون وصبغة !

عقيدتنا نحن أتباع أهل البيت عليهم السلام أن الله تعالى كان يعلم أنه لا يجوز في حكمته أن يترك الأمر للناس ليجتهدوا في معرفته وعبادته، حتى مع وجود القرآن لأنه حَمَّال وجوه، وحتى مع وجود السنة لأن رواتها مختلفون، ومفسروها أكثر اختلافاً، بل لا بد من جعل أئمة معصومين بعد النبي صلى الله عليه وآله ليكونوا قدوات عملية للناس تجسد نظرية معرفة الله تعالى وتطبيقها !

لذلك لم يترك الله عز وجل أمر معرفته وعبادته مجملاً مفتوحاً للناس، بل جعل لهم قدوات ربانية بعد النبي صلى الله عليه وآله وأمر نبيه صلى الله عليه وآله فأخبر الأمة أنهم اثنا عشر من عترته عليهم السلام وأمرها باتِّباعهم.

لكن الشعوب الجديدة لم تنقل إليها عقيدة إمامة العترة النبوية عليهم السلام وأن الله تعالى لا يقبل أن يعرفه المسلمون ويعبدوه باجتهادهم وفهمهم لنصوص القرآن والسنة، لأنهم بذلك يضيعون ويختلفون ويقعون في تحريف الدين، بل لا بد من اقتدائهم بالقدوات الحية الذين عينهم النبي صلى الله عليه وآله.

إن القليل من الناس من شعوب البلاد المفتوحة استطاع أن يعرف عقيدة الإمامة، فقد كان بعض الصحابة يبلغها بشكل سري على تخوف، لأن معناه عند السلطة أنه يتهم النظام ويخوِّن قسماً من الصحابة ويتهمهم بتهمة عظيمة !

أمام هذا الواقع، لم يقف أحد أمام اجتهادات المجتهدين من الشعوب الجديدة في معرفة الله تعالى وعبادته، خاصة من مثقفي البلاد الذين يعتبرون أنهم أكثر حضارة ومدنية من العرب، وأنهم إن فهموا لغتهم فهم أقدر منهم على فهم نصوص الدين الذي نزل عليهم، وفهم أغراضه وأهدافه في الإنسان !

لهذا سرعان ما امتلأ بازار التصوف بألوان الأفكار والسلوكيات، وبرز وُعَّاظٌ وعُبَّادٌ وقراءٌ ومُنَظِّرُون لمعرفة الله وعبادته، وكانوا كلهم أو جلهم من الشعوب الأخرى غير العرب وغير الشيعة طبعاً، وكان مستواهم الذهني نوعاً متقدماً على المسلمين العرب ولذلك تحول العرب إلى أتباع ومريدين لهؤلاء العلماء والمشايخ المتصوفة العجم !

ثم بدأ شيوخ المتصوفة بجذب الأتباع وتنظيمهم، الأمر الذي أكد الحاجة إلى مراكز للقاءاتهم وبرامجهم، فكانت الخانقاهات !

وطبيعي أن يبحث شيوخ التصوف عن شخصيات عارفة لله عابدة له ليتخذوها قدوة، وأن يجدوا أهل البيت عليهم السلام قبل غيرهم، ولذلك تجد الأكثرية الساحقة منهم تنسب طريقتها إلى أمير المؤمنين عليه السلام كمصدر لأفكارها في معرفة الله تعالى وعبادته !

وبهذا دخل التشيع بمعنى حب أهل البيت عليهم السلام إلى ثقافتهم، ودخل مديح أمير المؤمنين عليه السلام خاصة إلى أناشيدهم وأذكارهم وأورادهم.

والخلاصة أن التصوف في الأمة كان وما زال تياراً واسعاً قوياً وجذاباً، وطبيعي أن يكون الخطأ فيه أكثر من الصواب، والكذابون فيه أكثر من الصادقين.

 

ويقول الشيخ حسين المعتوق في بيان العلاقة بين التصوف والتشيع:

كثيراً ما نجد في كلمات الكثير من الباحثين دعوى أنّ التصوف إنما أخذ من التشيع، وأنّ المتصوفة غالباً هم من الشيعة أو من المتأثرين بهم، ولعل من أهم الأسباب التي دفعتهم لذلك ما نجده في كلمات كثير من علماء التصوف من تعظيم أهل بيت العصمة والرسالة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بما لا تتقبله نفوس النواصب والمبغضين لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام، ولكن تبين فيما تقدم أنّ دعوى أخذ التصوف من الشيعة أمر لا أساس له من الصحة، وقد اعترف بذلك عدة من علماء السنة الكبار منهم ابن تيمية الذي ذهب إلى أنْ التصوف إنما نشأ في أوساط أهل البصرة من أتباع الحسن البصري، كما أنه تبين مما تقدم أنّ جملة وافرة من علماء التصوف هم من كبار علماء السنة كعبد القادر الجيلاني وأبي القاسم القشيري وأبي إسماعيل الأنصاري وسهل بن عبد الله التستري والجنيد بن محمد وأبي عبد الرحمن السلّمي وابن خلدون وغيرهم، ولم نجد من اتهمهم بالتشيع أو الميل إليه، بل وفيهم من يعد متحاملاً على الشيعة كأبي إسماعيل الأنصاري الذي ذهب إلى تفسيق أو تكفير من عدا الحنابلة، ومدح المتصوفة لأهل البيت (ع) ليس فيـه أدنى دلالـة على كـونهـم مـن الشيعـة، لأنّ الإعتقــاد بمكانـة أهـل البيت (ع) ومناقبهم أمر متفق عليه عند سائر الفرق الإسلامية.

نعم لا إشكال في أنّ بعض الشيعة كانوا من علماء التصوف والعرفان كالفيض الكاشاني وصدر المتألهين والميرداماد وغيرهم، وهو لا يستلزم أنْ يكون غيرهم من المتصوفة يوافقونهم في الإعتقاد، وإنما الذي ينبغي قوله أنّ أبحاث التصوف هي أبحاث وقعت في مساحة مشتركة بين المذاهب الإسلامية، ولم تختص بفرقة إسلامية معينة، كما هو الحال بالنسبة لعلوم القرآن الكريم، فالمذاهب الإسلامية، وإنْ اختلفت فيما بينها لكن يوجد بينها ما يتحقق به الاشتراك، وذلك ضمن المساحة التي هي مورد اعتقاد الجميع وإنْ حصل الإختلاف بينهم في بعض التفاصيل بسبب اختلاف الاجتهاد أو العقيدة، إذْ لا يخفى أنْ بعض الخلافات العقائدية تنعكس على عدد من الفرعيات، ولا يختص التصوف بهذا الأمر، بل حتى الأبحاث العقلية من الفلسفة وغيرها وقع البحث والخلاف فيها عند علماء الشيعة والسنة، فقسم من علماء الفريقين قبلها وقسم آخر لم يقبلها، فهي مساحة إجتهادية مشتركة ولا يصح أنْ ينسب إلى الشيعة أو السنة على الإطلاق قبول مثل علم الفلسفة أو بقية العلوم العقلية كالمنطق أو رفضه، كما لا يصح أنْ ينسب ذلك للتشيع أو التسنن بمحض وجود قائل بذلك من أحد الطرفين، بل في الطرفين من يقبل ومن لا يقبـل، وكذلك التصوف أيضاً.

 

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك