كانت الطائفة اليهودية في العراق تفضل ان تبقى البلاد تحت وصاية وحكم وحماية القوات البريطانية المباشرة .
وهذا واضح من خلال الافكار التي طرحها الحاخام الأكبر موشي حييم شماش رئيس الطائفة اليهودية العراقية (1) , مع المندوب السامي البريطاني في بغداد في مقابلة بينهما حيث كان من جملة افكار الحاخام الأكبر ,بأن العرب غير قادرين على تحمل المسؤولية السياسية , ويكونوا متعصبين طائفياً ,فهذا مع ما ذكرناه في العدد الرابع .
ولكن المندوب السامي استطاع اقناع رئيس الطائفة اليهودية العراقية بوجهة نظر حكومته البريطانية بتأسيس حكم وطني عراقي تحت رعاية الانتداب البريطاني.
و سبق وان ايدت الطائفة اليهودية فكرة تأسيس حكومة عراقية مؤقتة برئاسة عبد الرحمن النقيب تكون تحت وصاية برسي كوكس بتاريخ 25 تشرين الأول 1920- آب 1921م.
وفي 23 آب 1921 - 7 أيلول 1933توج فيصل بن الحسين ملكاً على العراق ,فدخل البلد في عهد جديدا يعرف بالعهد الملكي (1921-1958), فاستقبلت الطائفة اليهودية هذا الحدث بفرحة غامرة , كونها ترى ذلك الملك مفروضاً من قبل بريطانيا على البلاد.
والملك فيصل سرعان ما ترك الأمور لولي عهده وخليفته الملك غازي (1933-1939) , ولكن الملك غازي لم يكن كأبيه حيث اهمل الضغوط البريطانية .
وان الاقلية اليهودية استفادت في ذلك العهد من عدة قوانين لصالحها ,كالقانون الأساسي العراقي المادة السادسة التي تضمنت لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون وان اختلفوا في القومية والدين واللغة (2).
وتبوأ الكثير منهم الوظائف الهامة في الدولة العراقية على اثر ذلك القانون , وبسبب حصولهم على ارتفاع مستوى التعليم ,ومعرفتهم باللغات الاجنبية أتيح لهم ممارسة الدور الفعال في الوصول الى المناصب العديدة في وزارة المالية والمحاسبات العامة والأشغال والمواصلات والبريد والبرق وميناء البصرة والسكك الحديدية والجمارك ولم تخل منهم دوائر وزارة الداخلية والمعارف والصحة والشرطة والدفاع , وكان ابرزهم تولي ساسون حسقيل وزيراً للمالية في أول حكومة عراقية التي تشكلت في 25 من تشرين الاول عام 1920.
واستفادت الطائفة اليهودية من قانون انتخاب النواب لسنة 1924 حيث خصص لتمثيلهم اربعة مقاعد اثنان لبغداد وواحد لكل من البصرة والموصل ، فيما كان لها ممثل واحد في مجلس الأعيان .
وكذلك انتفاعهم من القانون الذي سنته الحكومة بشأن ادارة الامور الدينية الخاصة بطائفتهم كقانون الطائفة الإسرائيلية رقم 77 لسنة 1931م (3).ومن ثم صدر قانون اخر يتعلق بنظام الطائفة رقم 36 لسنة 1931م(4).
ذكرت مجلة آفاق عربية في عددها التاسع لسنة 1978 ما تضمنته تلك القوانين حيث قسم القانون الطائفة الى جماعات في مناطق بغداد والبصرة والموصل ، على ان يكون لكل جماعة رئيس حاخامات ، ومجلس عمومي وأخر جسماني ، ويكون لجماعة بغداد بالإضافة الى ذلك مجلس روحاني للإشراف على الشؤون الدينية والمعابد(5).
وشكلت محاكم خاصة بالطائفة في بغداد ترأسها الحاخام الأكبر موشي حييم , واصبح لليهود في بغداد لوحدها (50 ) معبدا ومدرسة عليا لتخريج الحاخامات لحد سنة 1950.
وافضل تعبير يشير الى حرية الطائفة اليهودية في العراق وتمتعها بالمواطنة والحقوق ما ذكره الصحفي البريطاني ديفيد هيرست في كتابه (البندقية وغصن الزيتون – جذور الصراع في الشرق الأوسط عن أوضاع اليهود في العراق, فيقول : ((… لم تفرض عليهم الإقامة في (الجيتو) .. ولم تعلق على ظهورهم لافتات مهينة بأنهم يهود ، ولم يسخر أحد من صفاتهم الشاذة ، كما فعل شكسبير في قصة تاجر البندقية … ان حياتهم كانت مريحة وجذورهم متأصلة ، ولم يتمتعوا بحريتهم في أي مكان مثلما تمتعوا بها في العراق)).
ولكن البعض منهم ظل مرابطا من اجل تنفيذ اهداف الحركة الصهيونية , ونفس الحركة كانت مواظبة على النشاط , ففي سنة 1927 أوفدت الصهيونية من فلسطين اليهودي(نسيم ملول) إلى مدينة الحلة كي يدير المدرسة اليهودية فيها فقام بنشاط دعائي و تنظيمي للصهيونية فيها.
وفي أواخر سنة 1933 ظهرت (جمعية نشر منتوجات فلسطين) في نفس المدينة المذكورة , وهذه الجمعية أسسها بعض الشباب من أبناء الأقلية اليهودية في الحلة من ذوي الأفكار الصهيونية من اجل الوقوف ضد جمعية مقاطعة البضائع الإسرائيلية التي أسسها مجموعة من الشباب المثقف دعماً للقضية الفلسطينية .
ولذا مارست هذه الجمعية نشر التعاليم الصهيونية بين اليهود و التي كانت تأتي إليهم من اليهود الصهاينة في فلسطين متخفية وراء واجهة تجارية من أجل عدم أثارة الشبهات فضلا على أنها كانت تروج للمصنوعات الصهيونية الآتية من فلسطين الى تلك لمدينة ، من اجل دعم الحركة الصهيونية ماديا ومعنويا من خلال أقامة بعض الندوات والاجتماعات في الكنس اليهودي الموجود في محلة الجباويين بمدينة المذكورة , فضلا عن ذلك كان الدعم للحركة الصهيونية من داخل العراق عن طريق مطابع اليهود التي يمتلكونها منذ العهد العثماني كالمطبعة التي تأسست سنة 1863 التي يديرها اليهودي موشي باروخ مزراحي ,والاخرى سنة 1866 يديرها اليهودي رحميم بن راؤبين وشركائه , والغريب بان هذه المطابع لا تحمل اسم كعنوان لها .
واما التي تأسست سنة 1888م كان عنوانها مطبعة بيخور ويديرها شلوموبيخور , وذكر د, علي الوردي مطبعة دنكور التي كان افتتاحها سنة 1904 ويديرها عزرا روبين دنكور(6).
والى جانب انخراط بعضهم بشكل خاص في صفوف نشاطات الحركة الصهيونية , الا ان زعماء الاقلية اليهودية واتباعها في العراق اتخذوا موقفا سلبيا ,اذ تخلفوا عن التظاهرات الجماهيرية التي عبرت عن رفض الشعب العراقي لمعاهدة لوزون سنة 1922 ,والتي كانت تشير الى رسم العلاقة بين بريطانيا والعراق حيث تضمنت أعباء سياسية واقتصادية وعسكرية على العراق، فضلاً عن كونها انتداباً في حلة معاهدة جديدة.
ولذلك عدتها الجماهير العراقية أسوأ من الانتداب , بينما كان موقف الأقلية اليهودية على النقيض من ذلك، فرحبوا بعقد تلك الاتفاقية من اجل حماية مصالحهم الاقتصادية على حساب الشعب برمته .
وفي معاهدة1926 ومشروع معاهدة 1927 المرفوض من قبل الحكومة والشعب العراقي معا , ماعدا الاقلية اليهودية التي لم يكن لها موقف واضح من المعاهدة ومشروعها .
واما معاهدة 1930 التي واجهت نقداً لاذعاً من قبل المعارضة الوطنية العراقية والشارع العراقي , كونها صيغةً انتدابية , لان النفوذ البريطاني متغلغل في داخل بنودها . وكان موقف أبناء الأقلية اليهودية مع عقد تلك الاتفاقية بسبب سلامة مصالحهم الاقتصادية المرهون ببقاء القوات البريطانية حسب تصورهم .
وعندما انتهى الانتداب البريطاني في الثالث من تشرين الأول سنة 1932, واصبح العراق دولة مستقلة من خلال قبوله عضواً في عصبة الأمم , فكان موقف اليهود من ذلك موقفا يــنتابه الحذر والقلق , ولكنهم كانوا على يقين بــان بريطانيا سـوف لن تتخلى عنهم إن احتاجوا إليها، أو عـندما تهدد مصالحـهم الاقتصـادية.
وفي سنة 1936 فترة الانقلاب العسكري بقيادة بكر صدقي ضـــــــد وزارة ياسين الهاشمي بسبب سياسة الاخير في دعم وتمويل القضية الفلسطينية, ودعمه للكفاح المسلح ضد العصابات الصهيونية في فلسطين, فهذه السياسة اثارت الحقد والعنصرية لدى البريطانيين وبعض جماعات الاقلية اليهودية من الذين ينتمون للحركة الصهيونية , فاعتبروا حكومة ياسين الهاشمي تستخدم سياسة قومية , مما جعل موقفهم مؤيد للانقلاب العسكري ضد حكومة الهاشمي .
ورغم موقفهم ضد حكومة ياسين الهاشمي المذكور اعلاه , الا ان الرجل كان لا ينظر الى الاقلية اليهودية بأي منظار خارج المواطنة وعلى ان قوميتهم يهود , بل ينظر اليهم جزء من تنوعات البلد حيث نرى في وزارته الاولى تم تعيين ساسون حسقيل في منصب وزير المالية ( 1924 – 1925) بعد ان تخلت عنه وزارة جعفر العسكري.
وكان الهاشمي عند توليه الوزارة للمرة الثالثة (17 آذار 1935 - 29 تشرين الأول 1936) يرى في حينها وجود نشاط صهيوني , ولابد له من بعض الإجراءات التي يفرضها الواجب الوطني كمراقبة العناصر الصهيونية النشيطة ، وإبعاد قسماً منهم خارج العراق.
ولكن اليهود ينظرون بمنظار اخر ,فبعد الانقلاب العسكري اصبح بكر صدقي رئيس أركان الجيش في حكومة حكمت سليمان ( 1936ـ 1937) , مما جعل أبناء الأقلية اليهودية يقدمون هدايا ثمينة لقائد الانقلاب خصوصا بعد زواجه من إحدى الألمانيات.
وجاء لهم موقف اخر دعما لحكومة نوري السعيد (1939-1940)عندما قام بقطع العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا بسبب إعلانها الحرب على الحلفاء، وتسليم الرعايا الألمان الموجودين في بغداد إلى البريطانيين.
ولم تكتفي الاقلية اليهودية بدعم قرار الحكومة العراقية فحسب ,بل حثتها على إعلان الحرب ضد ألمانيا ، وذلك بسبب ما قامت به السفارة الألمانية في بغداد من دعاية ضد اليهود ومخططاتهم في فلسطين , اذ ان السفارة الالمانية بدأت بتضيق الخناق على المصالح الاقتصادية للأقلية اليهودية , لاسيما بعد ان وجدت الدعية الالمانية رواجا ومقبولية بين ابناء الشعب العراقي خصوصا بعد ان برزت الشركات اليهودية في السوق العراقية على نحو واضح , فمن ابرز تلك الشركات ، شركة خضوري وعزرا وميرلاوي (وكلاء سيارات شوفرليت) ، وشركة إبراهيم وشفيق عدس (وكلاء سيارات فورد) ، وفي الصناعة أسس اليهود معامل لصناعة الصابون والمنسوجات الصوفية والسجائر وصياغة الذهب والفضة والطباعة ,والمقصود بالطباعة المطابع التي يمتلكها اليهود وهي كما ذكرنا مسبقا نشاط كدعم مادي وثقافي للحركة الصهيونية وشخصي , ومنها المطابع التالية :ـ
الاسم تاريخ التأسيس مديرها
الوطنية الإسرائيلية 1922 صيون عوزير
اليشع شوحيط 1924 اليشع شوحيط
الآداب – دنكور 1928 الياهو عزرا دنكور (مطبعتين)
الجمعية الخيرية الإسرائيلية 1928 الياهو ساسون
المطبعة التجارية 1928 شلومو إبراهيم صدقه
المطبعة الملوكية 1929 الياهو عزرا دنكور
مطبعة الهلال - أهرون مردوخ باشا
مطبعة النهضة 1935 إبراهيم يوسف
الخيرية الإسرائيلية - إسحاق شاؤول سوفير
المطبعة الشرقية 1936 إبراهيم هومي
مطبعة المنصور - إبراهيم يوسف خليف
مطبعة الحمراء - إسحاق رحمين يونا
مطبعة المأمون - مير إبراهيم سلمان
المطبعة الوطنية - صيون عزرا
وكانوا اليهود في غرفة تجارة بغداد عند تأسيسها عام 1926 يشكلون الأكثرية بين أعضائها , وسيطروا على واردات العراق فكان بيدهم(95%)منها، ولم تختلف هذه السيطرة كثيراً بالنسبة للعقود التجارية باحتكارهم (90%) منها و (10%) من صادراته (7), وذلك كله بمساعدة القوات البريطانية , مما جعل اليهود يقفون مع حكومة نوري سعيد من اجل مصالحهم الاقتصادية ,وكانت بريطانيا تخشى من اقامة تحالف عراقي - الماني ضدها , وللعراق الاهمية الاستراتيجية في حسبانها ,ولذلك سعت لأعادة احتلاله مما دفع السلطات البريطانية الى احكام قبضتها على العراق بسلسلة من الاجراءات التي نتج عنها اندلاع انتفاضة مايس الوطنية التحررية في العراق التي ادت الى توسيع المواجهة بين حكومة الكيلاني والبريطانيين.
وهكذا في ظل العهد الملكي وحكوماته المتعاقبة كان تعداد الطائفة اليهودية يزداد تبعاً للظروف الجيدة, وبدعم بريطاني , ليتجاوز مائة ألف نسمة في نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات من القرن العشرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1)موشي شماش (1835-1923) ,ولد في بغداد , وتلقى دروسه في المدارس اليهودية فيها ,وعين عام 1917 رئيسا للحاخامين ,فتولى منصبه حتى وفاته في 15 شباط 1923.
(2)ديوان التدوين القانوني , القانون الأساسي العراقي مع تعديلاته ، بغداد ، ص20.
(3)و الغي هذا القانون بموجب القانون رقم 109 ، الصادر في 4 أيلول 1963 لمراجعة التفاصيل ينظر وزارة العدل ، مجموعة القوانين والأنظمة لسنة 1963م.
(4)المصدر السابق , وزارة العدلية ، مجموعة القوانين والأنظمة لسنة 1931.
(5)مجلة آفاق عربية , العدد 9 لسنة 1978, ص73-74.
(6)لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، جـ3 ، ص247.
(7)احمد عبد القادر مخلص القيسي ، الدور الاقتصادي لليهود في العراق 1921-1952 ، ، ص35.