في أجواء المراسم العاشورائية، ذهب أحدُهم مع الشخص المعنيّ في إحدى الأماكن التي تقام بها مجالس العزاء الحسينية، لإخراج ما تَيَسَّر من السجادات التي يتطلَّبها الوضع اللوجستي خلال مجالس العزاء، وإذ بِبَصَرِهِ يقع على شيءٍ كان ملفتاً بالنسبة له، وهو ملف يبدو أنه يحتوي على أسماء لأشخاص سبقونا بالرحيل عن هذه الدنيا، حيث توفّاهم اللهُ تعالى في سنواتٍ خَلَت وأعوامٍ مَضَت.
نعم أيها الأحبة، بالأمس - قريبه وبعيده - كانوا بيننا واليوم أسماؤهم ترقد في الملفات، إنه الموت الذي يتربَّص بنا في كل آنٍ من لحظات حياتنا مُنتظِراً الأمر الإلهي للانقضاض، إنَّه "هادمُ اللَّذّات" الذي لا بُدَّ في آخر المطاف أن يَحِلَّ ضيفاً على كل واحدٍ منّا، ولا مهرب من أن يَمُرَّ على كلِّ عابرٍ في هذه الدنيا الفانية، إلا أنَّه ضيفٌ مختلفٌ عن باقي الضيوف، وعابرٌ ليس كباقي عابري السبيل، ولكن يتفق معهم على عاملٍ مشترك وهو "الأَخذ" أو "السَّلب" أو ما شِئْتَ فَعَبِّر في هذا المضمار.
فالضيف التقليدي الاعتيادي قد يأخذ بعض الأمور المتعارف عليها في محافل الضيافة، من طعام وشراب ليتناول الأول ويشرب الثاني، وعابر السبيل قد يحتاج أن يأخذ مالاً - على سبيل المثال - ليكمل مسيره الى أرض الوطن. أما صاحبنا - هادم اللذات - الذي لم نمتحن بعد صحبته ومرافقته، فيأتي ليسلب منا أغلى ما نملك وأثمن ما يمكن لأحدنا تقديمه وهي الأرواح التي بين جَنَباتِنا.
وإجمالاً، يمتاز هذا الضيف الفريد عن باقي الضيوف بميزة مهمة، بل في غاية الأهمية، والمتعلقة بِخِفَّةِ دَمِ الضَّيف وثِقْلِه. فالضيف الإنسيّ الطبيعيّ هو الذي يحدد، ومن خلال تصرفاته وطريقة تعامله، إذا كان ضيفاً ذا دمٍ خفيف أو ثقيل، حيث يُرغَب به في الحالة الأولى دون الأخرى، ولا علاقة للمضيف في ذلك. أما في حالة صاحبنا "الموت"، فالمعادلة معكوسة، لأن تصرفات المضيف وسلوكياته في مرحلة ما قبل الاستضافة - والتي تختلف فترتها بين شخص وآخر - والمتمثلة بفترة حياته في هذه الحياة الفانية، هي التي تحدد وضعية "الضَّيف النَّوْعيّ" من جهة خِفَّة دَمِهِ أو عدمها، وبالنتيجة هل هو مُرَحَّبٌ به أو خلاف ذلك.
ومن مفارقات هذا "الضَّيف المُمَيَّز" أنه يُقَسِّم المُضيفَ الى ثلاثة أقسام: اسمٌ في الملف، جسدٌ تحت الثرى وروحٌ عند بارئها. فَإِذا تجاهلنا الأول على أنَّه أمرٌ تنظيميٌّ دُنْيَوِيّ، نجد أنَّ الحاكم في هذا المشهد، أو قُل "نجم الشاشة" في هذه التركيبة العابرة للعوالم، هو حصيلة ما صَدَرَ من عملٍ من المُقَسَّم قبل تقسيمه القهري الغير إرادي، فتكون الروح مُعَزَّزَة مُكَرَّمَة عند خالقها أو مُهانَة مَذلولة، ويكون قبر الجسد روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
إِذاً أيها الأعزة، نحن أمام "ضَيْف" قد شَرَعَ بالتوجه نحونا منذ أن وُلِدْنا، وهو يتابع المسير دون توقّف، ولا شيء يردعه عن ذلك، ومَآلُه الحتميّ - في نهاية الأمر - هو الوصول، ولا خيار لنا في تغيير مساره، إلا أننا نملك خياراً مهماً، وهو تحديد كيفية وصول هذا "الضَّيْف"، وتصويب ماهِيَّة وَضْعِيَّتِه حين الوصول، فَلْنَجْتَهِد أيها المؤمنون لحسن استقبال هذا "الوافِد"، وَلْنُحْسِن البَذْلَ لتوفير أفضل مناخ ممكن لذاك اللقاء القادم، وَلْنَعتَبِر من قول أميرنا، أمير المؤمنين(ع)، سَيِّدُ الفصاحة وأميرُ البلاغة، فقد جاء في الخبر:
{ المفيد: قيل لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) كيف أصبحت ياأمير المؤمنين؟ قال (عليه السلام): أصبحت آكل رزقي وانتظر أجلي، قيل له: فما تقول في الدنيا؟ قال (عليه السلام): فما أقول في دار أولها غم وآخرها الموت، من استغنى فيها افتقر ومن افتقر فيها حزن، في حلالها حساب وفي حرامها النار، قيل: فمن أغبط الناس؟ قال (عليه السلام): جسد تحت التراب قد أمن من العقاب ويرجو الثواب. } [ المصادر: "الاختصاص"، "البحار" و "جامع الأخبار" ].
ويختم "خادمُ أميرِهِ" بالقول: اِحذروا يا إخوتي، فنحن "اليوم هنا...وغداً في الملف".
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.