قديسة الإسلام


قراءة في كتاب (صرخة أكملت مسيرة لأنطوان بارا)                

حازم محمد 

يذكر المفكر (انطوان بارا ) في سفره الثاني عن النهضة الحسينية المباركة والمعنون ( صرخة أكملت مسيرة)  الذي صدر عن قسم الإعلام بالعتبة الحسينية أنه أمضى في تأليف هذا الكتاب خمسة وعشرين عاما ( المقدمة ص 17) وذلك بسبب عجزه عن استيعاب سحر شخصية العقيلة الهاشمية (زينب بنت علي بن أبي طالب –عليهما السلام) هذه الشخصية التي يجعل منها محورا لهذه الكتاب الذي أعدّه للطبع بعد كتابه الأول (الحسين في الفكر المسيحي ) الذي عرضنا له في مرة سابقة.

ينطلق بارا في كتابه هذا من مسلمة واضحة مفادها ان ما قامت به العقيلة زينب –عليها السلام- بعد استشهاد أخيها كان ( تكليفا إلهيّا يتوجب على كل صاحب قلم حر  وضمير حي أن يكشف بنورانية فكرية فكرية أبعاد هذا التكليف ومقتضاه ص 20).

إن طبيعة واقعة الطف ابتداء من مرحلة ما قبل خروج الامام مرورا بالمواجهة والاستشهاد وانتهاء بمرحلة السبي قد فرضت على انطوان بارا كما يصرح (ص22) التنبه الى  تعدد اوجه هذه الواقعة مما يستدعي تعددا في أساليب تناولها وعرضها وتحليلها، وهذا ما يحرص عليه كل الحرص من خلال توظيف اللغة والأسلوب الملائمين لكل فصل من فصول الكتاب السبعة التي سنوجزها من خلال عرضنا لهذا الكتاب المكتوب بنفس حيادي ومنصف .

 في الفصل الأول المعنون ( كعبة الرزايا )  يفتتح المؤلف ( ص 55 وما بعدها) حديثه عن الحوراء مركزا على موقع العقيلة زينب –عليها السلام- داخل الأسرة العلوية الهاشمية وطبيعة علاقتها بزوجها عبد الله بن جعفر الذي أباح لها رفقتها أخاها الحسين في مسعاه الإلهي لتكون العين الساهرة والأم الحانية على القافلة المتوجهة إلى أرض كربلاء، وبما أنها كذلك فقد كان الإمام كثيرا ما يقوي من عزيمتها ليصمد قلبها أمام الفجائع والأهوال القادمة مخاطبا إياها بكل رباطة جأش: ( لا تشقّي عليّ جيبا ، ولا تخمشي عليّ وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت) ويلتفت بارا إلى قدسية هذه الطاهرة العلوية وإنسانيتها الفذة من خلال أمر مهم وهو أن زينب كانت تندب قتلى الطف وتبكيهم بأحر الكلام وأوجعه إلا أنها صمتت  وسكتت لمصرع ولديها وفلذتي كبدها (محمد وعون رضوان الله عليهما) ولم تنطق ببنت شفة! وذلك كيلا ( تجرح مشاعر أخيها الحسين أو تشعره بالحرج كون ابنيها قدما نفسيهما فداء له.... وبذلك قدمت رسالة إلى أخيها مفادها: لا يحرجنك يا أخي مصرع ولدي فداك، فأنا فخورة وسعيدة بهذا المصير الذي كنت أتمناه ويشاركني زوجي ابن جعفر هذا الشعور بالفخر فهو الذي قدم ولديه لنصرتك وهو عالم بما ستؤول إليه الأمور من وراء ذلك ص 68).

وفي (عرس الشهادة ) وهو الفصل الثاني من الكتاب يأتي بارا على تحليل مواقف هذه المرأة العظيمة في أشد ساعة لا يقوى على تحملها أصلب الرجال وأشجع الفرسان، وهي ساعة فراقها لقرة عينها وابن امها بقية رسول الله، وقد صمدت بطلة هذه الملحمة في هذه الساعة  واقفة ( بشموخ وجلال وتسليم بقضاء الله أمام هذه المجزرة يحيط بها أعداء الدين ص 79) وهكذا فقد أدت هذه السيدة الجليلة المهمّة التي أناطها بها أخوها الإمام على أحسن وجه، فهي التي دافعت كاللبوة الجريحة بجسدها سياط الظالمين ونبالهم عن الصبية والأطفال ممن تبقى منهم، وهي التي آزرت ابن أخيها السجاد وشدت من عضده وهو المريض الواهن يوم الطف كي لا يغرب عن وجه الأرض نور الإمامة.

كما يتعرض الكاتب في هذا الفصل إلى دور العقيلة الطاهرة بعد انقشاع غبار المعركة، وهذا الدور بحسب بارا هو البداية الحقيقية لمسؤولية السيدة الجليلة زينب الكبرى –عليها السلام- في عموم النهضة الحسينية المباركة( ينظر ص87) فهي البطلة التي سمت وارتفعت فوق أحزانها وجراحها ورأت من وراء الحجب والظلمات مستقبل هذه الثورة الزاهر رغم كل جراح اللحظة الراهنة ورغم كل آلامها وأثمانها الباهظة.

إن ( بطلة الطف وهو الفصل الثالث من الكتاب ص 93 وما بعدها ) كانت تعي قيمة تضحية أخيها الحسين وكانت تدرك حجم مسؤوليتها أزاء هذا الوعي فهي التي صرخت حينما غادرت أرض المعركة ( اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان) فالثورة التي كانت بهذا الحجم لا بد أن يكون قربانها عظيما كحجمها.

وكما كانت عبارة السيدة زينب موجزة ودالة عند مغادرتها أرض المعركة كانت كذلك عند دخولها عل ابن زياد خادم الطغاة حين سألها: كيف رأيت صنع الله في أخيك وأهل بيتك؟ فردت بكل شموخها وصدقها وعفويتها : ( ما رأيت إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن يكون الفلج يومئذ؟ هبلتك أمك يا بن مرجانة! ) وهنا يتساءل (بارا) كيف أن العقيلة رأت جمالا في كل تلك المصائب والأهوال التي تهد الراسيات من الجبال؟ ويجيب عن ذلك قائلا: إن ذلك الجمال يتمثل بـ ( الإشعاع المنبثق من تمام المهمّة التي أعدتها لها العناية الإلهية  والتي سيّرتها لإنفاذها راضية مرضيّة جنبا إلى جنب مع حبيبها الحسين التي كانت له الأم الرؤوم فاستحقت عن جدارة لقب أم أخيها ص 114).

وفي الفصل الرابع المعنون ( صرخة أكملت مسيرة) وهو عنوان الكتاب ككلّ يقف بارا محللا المواجهة التاريخية بين الكفر كلّه –يزيد- وبين الإيمان كلّه –زينب عليها السلام- ويقف طويلا عند خطبة السيدة زينب في قصر يزيد منتبها إلى (بيت القصيد) في هذه الخطبة (ينظر ص125 وما بعدها ) وهي عبارة ( إني لاستصغر قدرك التي توجهت بها العقيلة إلى (امير الشام) وهي عبارة توجز عقيدة هذه المرأة وتعطي صورة واضحة عن شجاعتها وفصاحتها وشدة بأسها بالرغم من كونها امرأة!

إن زينب من خلال ما جرى عليها تقدم صورة ناصعة عن أهل البيت وما جرى عليهم من الإبعاد والإقصاء، فأهل البيت لو كانوا قد طلبوا من الله دفع الظلم عنهم لاستجاب لهم، ولكنهم تقدموا للجهاد وللموت ليكونوا قدوة للمظلومين والمحرومين في كل بقاع الأرض (ينظر ص131).

إن (قديسة الإسلام ) وهو الفصل الخامس من الكتاب استطاعت ان تنتزع قيمتها الحقيقية من بين أنياب الشيطان –يزيد- وأن تجعل أفئدة الناس في الشام تهفو إلى هؤلاء القوم المجهولين، فقديسة الإسلام استطاعت أن توصل صوت الثورة إلى معقل الشيطان وإلى مكان إقامته، كما استطاعت أن تبدد الصورة المشوهة التي يحاول رسمها للثائرين من أهل البيت وأن تعيد ترتيب الحسابات والقناعات في الأمصار الإسلامية التي تمر بها في الذهاب والإياب، وإذا كانت هذه القديسة دخلت الشام محنية الرأس تتقاذفها السياط والسلاسل، فقد خرجت مرفوعة الرأس تستشعر حجم النصر الآتي! ( ينظر ص 155 وما بعدها ).

ويستمر إكمال المسيرة في المدينة المنورة بعد عودة الراحلة وتبدأ قديسة الإسلام بتأليب القوم من خلال خطبها المقذعة ضد الحاكم الظالم الذي يقرر نفيها فتختار مصر لما عهدته من أهلها لحب أهل البيت وهناك ستكون محط الآلاف من محبي ومحبات أهل البيت تعلمهم القرآن وتفسر ما غمض من آياته وتجذر في نفوسهم قيم الإسلام العظيم في رفض الظلم ونبذ الظالمين.

في الفصل السادس (ملحمة الظفر) يأتي بارا على مناقشة ثمار الثورة الحسينية التي ما كانت لها أن تستمر وتستدام لولا الدور العظيم الذي اضطلعت به هذه القديسة ، فبعد مغادرة السيدة زينب للشام ( بدأت تفاعلات الندم في قرص الحشايا والصدور ص181) مما جعلت من الطاغية يزيد يعدّل من مواقفه وينافق من خلال إبدائه الندم على قتل الحسين حتى يروى عنه أنه قال: ( بغضني الله بقتله-أي الحسين – إلى المسلمين وزرع في قلوبهم العداوة لي فأبغضني البر والفاجر بقتلي الحسين).

وهكذا توالت الاستجابات ليقظة الضمير وتتابعت الثورات التي جعلت من كربلاء بوصلة يهدي يستهدى بها بغض النظر عن نتائج الثورة وتبعاتها.

ويعقد (بارا) في فصله الأخير المعنون ( بين زينب ومريم)  قرانا بين هاتين القديستين الطاهرتين اللتين يجمعهما جامع واحد هو الاستسلام لمشيئة الرب بقلب صلب لا يخشى هولا ولا يبتغي إلا مرضاة الله (ينظر ص 262 وما بعدها ).

وكانت زينب القديسة الطاهرة تردد حين رأت مصرع سيد الشهداء بأم عينها ما قالته سابقتها القديسة مريم حين نزل بها البلاء فتأوهت: ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيّا )، وينتهي بارا بعد تفصيل لمفهوم الأمومة بين المسيحية والإسلام إلى أن ( ما يقرب زينب المختارة من مريم البتول هو خط القدسية في شخصيتيهما وروح الكفاح في نظالهما مع شريكيهما عيسى والحسين، وما وسم حياتهما من مشاعر الأمومة والأخوة في كل المراحل ص275) .

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك