أبوذر الكندي
اَللّـهُمَّ اِنّي اَفْتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمْدِكَ، وَاَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَّنِكَ، وَاَيْقَنْتُ اَنَّكَ اَنْتَ اَرْحَمُ الرّاحِمينَ في مَوْضِعِ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَاَشَدُّ الْمُعاقِبينَ في مَوْضِعِ النَّكالِ وَالنَّقِمَةِ، وَاَعْظَمُ الْمُتَجَبِّرِينَ في مَوْضِعِ الْكِبْرياءِ وَالْعَظَمَةِ.
الفكرة الأساسية لهذا المقطع الأفتتاحي لدعاء الافتتاح هي بيان مقام العبد ومقام الرب، هذا البيان الذي تُعدُّ معرفته ووعيُهُ من قِبل الدّاعي مقدمة لا محيص عنها للشروع في المعاملة مع المدعو سبحانه، تتضمن وعي الدعاء والقيام بأدبه، لضرورة أن يعي المخاطِب مقام مُخاطَبه – وعياً إجمالياً – ومن ثم يعامله بأدبٍ يوازي مقامه وحقّه.
ولكي يعي الدّاعي ذلك لابد أن يُدرك أن مقام العبد هو المحدودية والاحتياج المطلق قياساً لمقام الرب الذي يمثل اللامحدودية والغنى المطلق، وبعد أن يعي هذه المعاني يستشعر فاقته ويُدرك ضعفه فينتقل لأولى خطوات الأدب مع ربه وهي الاعتراف بالتبعية التامة إلى فضل الله تعالى ومنّه عليه.
وأولى هذه الخطوات هي افتتاح الثناء على الرب من قِبل العبد بالحمد، ايقاناً من العبد بأنه وما يملك منتسب لربه ومحتاج إليه، فيقول ” اللهم إني افتتح الثناء بحمدك ” وهذا ليس من الافتتاح الذي يقابل الانتهاء بل هو افتتاح لا انتهاء له، فيبقى العبد يفتتح كل توجّه وعبادة ودعاء بالحمد ابتداءاً وانتهاءاً، لأن الحمد هو الذي ينبغي أن يدين به الفقير المطلق للغني المطلق والمحدود للامحدود فيفتتح كل توجّهٍ وعبادةٍ ودعاء بالحمد، مذعناً أن نفسه وما يملك حتى هذا الحمد إنما كان بمنّة من ربه، فيقول ” وانت مسددٌ للصواب بمنّك ” .
ثم يؤكد العبد الدّاعي تبعيته الكاملة لربه سبحانه من خلال ايقانه بأن جميع روابط وجوده تستند إلى ربه وترجع إليه، وهي ثلاثية الرحمة والشدة والعلو؛ فالرحمة التي تحقق رابطة المحبة في عالم الخلق – والتي لا وجود ولا بقاء وعطاء ولا نعمة ولا عفو للخلق بدونها – لابد أن تستند إلى مبدأ ليس وراءه مبدأ فيكون هو مبدأ الرحمة المطلق أو ارحم الراحمين، فيقول ” وايقنت انك ارحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ” ، والشِدة التي تحقق رابطة العدالة في عالم الخلق – والتي لا حقّ ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب للخلق بدونها – لابد ان ترجع إلى منبع ليس وراءه منبع فيكون هو العدل المطلق أو أشد المعاقبين، فيقول ” وأشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة ” ، والعلوّ الذي يحقق رابطة القَدَر والمقام الذي فُصّل عليه عالم الخلق – والذي لا عوالم ولا منازل ولا كمال ولا نقص بدونها – لا بد أن ترجع إلى مصدر ليس وراءه مصدر فيكون هو مصدر التقدير المطلق أو أعظم المتجبرين، فيقول ” وأعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة “.