لوفيغارو الفرنسية: كربلاء.. عراقٌ آخر.. المدينة التي تزدهر بفضل الدين


لوفيغارو الفرنسية تشيد بدور العتبات المقدسة في ازدهار وحماية العراق

 

يتدفق سنويا ملايين الزائرين القادمين من كافة اصقاع العالم الى أضرحة مدينة كربلاء الشيعية التي تدار بطريقة مميزة من قبل العتبتين اللتان ترفضان تدخل حكومة بغداد الفاسدة. انموذج من الممكن ان يترُك في نهاية المطاف الجارة الكبرى ايران في الظل.

داخل الضريح و على البلاط المغلف بالفسيفساء تتدافع الحشود الضخمة لملامسة الشباك الفضي الذي يحوي داخله قبر الامام الحسين. 

مانجور، يبلغ من العمر سبع وثلاثين عاما، جاء من كوجارات في الهند كي يبكي استشهاد «ملهمه» الحسين، الإمام الثالث للشيعة.

ابو الفضل، ايراني يعيش حالة خشوع ويداه مفتوحتان، أمضى  ثلاثون ساعة وهو يستقل الباص من حدود اذربيجان كي يصل الى ضريح الحسين الذي يرقد الى جانبه ابنه علي الأكبر و الشهداء السبعة و السبعين لمعركة كربلاء التي وقعت عام 680م والتي اعلنت بدأ الصراع  الذي غالبا ما كان دموي بين الشيعة والسنة لمدة أربعة عشر قرنا. 

قبالة مرقد الامام الحسين يشخص المرقد المهيب لأخيه غير الشقيق العباس بمنارتيه الذهبيتين اللتان تشرفان على مدينة كربلاء التي تبعد مئة كيلو متر جنوب بغداد. تستعيد هذه المدينة تأريخها البطولي في كل ذكرى ليوم عاشوراء، يوم استشهاد الامام الحسين، و في احياء ذكرى ولادة الامام الذي يصادف في شهر شعبان الهجري. 

في الخارج، وفي حرارة خانقة، تجلس مئات النسوة على البلاط الساخن، يلتحفن العبائات (الشادور) وينتظرن دخول الحرم، وبعضهن قد أوقد الشموع.

مداخل الحرم وُضعت تحت اجراءات أمنية مشددة لأن هذه الحشود الهائلة تعد أهدافاً لداعش، العدو السني المفرط في تطرفه. « الحسين و العباس يجسدان البطولة والمثل الأعلى الذي يجب ان نتبعه» يؤكد محمد رحيم و هو ايراني آخر حضر للمرة السابعة الى كربلاء.

ألوية ضد داعش

يصل كل عام ما يقرب من الثلاثين مليون زائر الى المدينة المقدسة. ميزانية تدار من قبل مؤسستين دينيتين. دولتان مصغرتان لهما وزنهما. ولا يحق لحكومة بغداد ذات الغالبية الشيعية و الموصوفة بالفساد أن تحشر أنفها.

«بموظفينا الستة آلاف وخمسمائة نحن نشكل حكومة مصغرة تعمل بشكل جيد، حيث لا وجود للفساد هنا» يؤكد السيد أحمد الصافي، آية الله الشاب الذي يدير العتبة العباسية وهو مقرب من علي السيستاني، رجل الدين الأكثر احتراماً في العراق. « كل ما أنجزناه من استثمارات حصل دون تدخل بغداد. يأتي السياسيون العراقيون ليستشيروننا لكنهم لا يتبعون أبداً وصايانا» يقول متأسفا السيد الصافي الذي يعتمر عمامة سوداء ترمز الى السادة المنحدرين من ذرية النبي.

عند مدخل كربلاء وليس ببعيد عن «مثلث الموت» الذي كان تنظيم القاعدة يخطف فيه الأجانب، قامت العتبة الحسينية بتشييد صرح معماري كبير ومدهش لاستقبال الزائرين تزينه النشرات الضوئية، مدينة كبيرة للزائرين حتى ان العرسان الجدد يمضون فيه ليلة زفافهم بعيدا عن صخب المدينة.

لا في بغداد ولا حتى في البصرة، فينيسيا الجنوب، التي ينخر فيها هي ايضا الفساد وسوء الإدارة، هنا في قلب «البلد الشيعي» يتشكل مستقبل المكون الأكثر اهمية في العراق الذي من المحتمل ان يكون يوما ما مستقلاً. لا بل قد يكون مرتكَزاً لـ«المحور الشيعي» الذي يخشاه العالم السنّي و الذي يربط ايران بلبنان مروراً بسوريا. 

ليس بالمصادفة ابداً ان يتم اختيار منطقة «الفرات الاوسط» وتحديدا المنطقة بين كربلاء والنجف لتشهد ولادة مطار كبير يحمل اسم «الإمام الحسين» قادر على استقبال عشرين مليون مسافر سنوياً بفضل افتتاح شركة طيران سوف تربط كربلاء بأهم المراكز الشيعية في ايران وسوريا ولبنان واليمن وباكستان والهند. 

كما «تسعى العتبة الحسينية للحصول على طائرتين ايرباص نوع ATR/ A320» هذا ما صرح به احد الدبلوماسيين الفرنسيين. وقد قامت العتبة الحسينية في كانون الثاني الماضي بفتح مكتبا استثماريا دائما لها في باريس. 

الشيخ علي القرعاوي من العتبة الحسينية أوضح قائلا: « لدينا مركزا لعلوم القرآن في اندونيسيا و مركزا ثقافيا في الدنمارك». 

كما يقوم  قسم الإعلام في العتبة الحسينية بنشر مجلة فصلية باللغة الفرنسية تحمل اسم «النهضة الحسينية» تعبّر بشكل جيد عن وجهة نظر شيعة العراق.

«كربلاء كانت قد تهدمت جزئيا من قبل جيش صدام حسين بعد انتفاضتنا عام 1991» يقول مستذكراً السيد رياض الحكيم نجل احد آيات الله الشيعة الكبار الذي كان قد سجن بين عامي 1983 و 1991  قبل ان يهرب الى ايران بعد الاضطهاد الدموي الذي مورس ضد اتباع الامام علي.

على الرغم من ان المساهمة في الحرب على داعش تقلل من فرص الاستثمار لكن ذلك لم يمنع العتبتين من تشكيل كل منهما لواء حشد شعبي: «لقد شارك رجالنا في معركة الموصل بعد مشاركتهم في معارك الدور، بيجي، تكريت و القيارة»، صرح بذلك احمد رضا الخفاجي من لجنة شهداء لواء علي الأكبر العائد للعتبة الحسينية والمكون من 3500 مقاتل. 

وأوضح الخفاجي رداً على بعض الاتهامات بالانتهاكات ضد بعض تشكيلات الحشد الشعبي: «دخولنا الى أية قرية سنية لا يهدف الى تطبيق قوانين دينية معينة»،  كما أكد السيد احمد الصافي: «هناك سباق فيما بيننا لتقديم الخدمات الى الناس». 

يستلم كل مقاتل من المقاتلين الخمسة آلاف المنضوين تحت اللواء التابع للعتبة العسكرية مرتباً شهريا يقدر بـ750 دولار من مؤسسة الكفيل التي تديرها العتبة العباسية. نحن هنا أمام مؤسسة عملاقة: ألبان الكفيل، بيبسي الكفيل، مياه الكفيل... من الصعب اغفال هذا الأسم في كربلاء. ايران تبيع لهم بعض الأسلحة ومؤسسة الكفيل تدفع الاثمان. 

علاقات الشد والجذب مع ايران  

العتبتان تمثلان مؤسستان تحلّان محل دولة فاشلة. هذا النظام يشابه المؤسسات الايرانية القوية التي تم تأسيسها لمساعدة الطبقات المحرومة. لكن التشابه يتوقف هنا. يقول السيد علاء احد المفكرين: «المؤسسات الايرانية لا تشكل في الواقع النموذج المحتذى به».  لمؤسسات كربلاء علاقات معقدة مع ايران. ولكي تصبح لطهران حظوة في كربلاء زادت من تبرعاتها لإعادة اعمار مرقدي الحسين والعباس، لكن النزاع لايزال كامناً. هناك منافسة مابين مدينة النجف ومدينة قم المقدسة الايرانية على تسيد العالم الشيعي. وتظل هناك عدة اختلافات عقائدية وفقهية. «نحن نرفض النظام الجمهوري الايراني المستند الى ولاية الفقيه (هيمنة الدين على الدولة) يؤكد السيد علاء. مثل اغلبية المتدينين العراقيين هو يعتقد انه شيعي بالتأكيد ولكن شيعي عربي وليس فارسي... 

ويقول علي، أحد المرشدين السياحيين منزعجاً: « اغلب الزائرين الايرانيين لا يتكلمون العربية و يجب علينا ان لا نتوقف عن ايضاح الطريق لهم» ثم قام بحركة تنم عن انزعاج من جار مزعج. أنها علاقة شد وجذب يغذيها التأريخ. الى حد ان هناك ايرانيون متخفون بين الزائرين ليقوموا بحماية مواطنيهم الزائرين ذوي الاعداد الكبيرة الذين يسكنون فنادق خاصة بهم ويتعاملون بعملتهم المحلية التومان.

في حوزته في النجف تبعد ثمانين كيلومترا جنوب كربلاء يستقبل الشيخ علي البديري طلبته. «يتبادل العراق و ايران المصالح لكن التأثيرات السياسية لا تستغل إلا جانباً واحداً» يقول الشيخ البديري وهو ينتقد «ازدواجية التدخل الايراني» في بلده. «التدخل الأول وهو مرئي يتمثل في التبادل التجاري، لكن التدخل الآخر وهو مخفي يتمثل في محاولة السيطرة الكاملة على العراق». من هنا يبدأ سبب أهتمام طهران بمراقبة تحرر واستقلال الشيعة بين النجف وكربلاء. 

 

 

 

الكاتب: جورج مالبرونو

ترجمة د. علاء التميمي

متابعة: صباح الطالقاني

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك