الغايات الانسانية السامية في نهضة الحسين(ع)


 

محسن وهيب عبد

 

     بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوة الا بالله وصلى الله على خير خلق الله محمد واله ومن ولاه، واللعن الدائم على الظالمين اعداء الله.

في الدراسات الانتروبولوجية الحديثة يعتمدون دراسة الظواهر الاجتماعية  لإظهار عللها، ذلك لان هناك علاقة تلازم ذاتية بين كل ظاهرة وعلتها، وبعد ها فالإنسان يكون قادرا ان يحضر الظاهرة باحضار علتها ، او يستبعد الظاهرة باستبعاد علتها، من باب طرق التحكم في المجتمعات وتوجيهها.

ان اول من استخدم هذا المنهج الدراسي في علم الاجتماع هم دهاقنة المعاهد المتخصصة في التثقيف الجماهيري من اجل تثبيت وشيوع النظريات السياسية الغربية البرغماتية، وقد حاولوا تجميع حالات لتكون ظاهرة وليقرروا على اساسها نظرياتهم:  لنهاية التاريخ والانسان الاخير، كما هو فوكوياما، او لنظرية صدام الحضارات، كما عند صموئيل هنتتغتون. ولكنهم اصموا اذانهم واغمضوا عيونهم وغلقوا كل حواسهم عن اكبر ظاهرة في تاريخ البشرية؛ وهي ظاهرة ارسال الرسل عليهم السلام، فهي ظاهرة متجذرة في التاريخ الانساني ولا يسع حتى لملحد ان ينكرها لأنها واقع التاريخ البشري نفسه.

وكل الاديان على الارض تشير الى هذه ألظاهرة ،  ومعظم اهل الارض هم اتباع لتلك الظاهرة ؛ كالديانات المسيحية واليهودية والإسلامية وحتى البوذية وكثير من ديانات اهل الارض؛ يدعون انهم اتباع ديانة سماوية وكل ما عند الانسانية من مثل وقيم هي ثراث لتلك الظاهرة.

اذن ؛ ما علة تلك الظاهرة ؟

 و ما هي الغايات والأهداف التي تسعى ومن أجلها ؟

و ما هي الآليات التي ينتهجها الرسل عليهم السلام في بلوغ اهدافهم؟

ان علة تلك الظاهرة هي الرحمة : ( وما ارسلناك الا رحمة للعالمين)( ) ، كما هي كل الافعال الكونية ، فلا ينجز فعل كوني إلا بقوة من صفات الرحمة ، فالرحمة كتاب الخالق البارئ المصور تعالى على نفسه ؛ (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)( ).

 وللرحمة دليل علة كذلك في كل الاديان السماوية الاخرى خصوصا المسيحية غير المحرفة.

وأما الاهداف الكبرى لتلك الظاهرة ؛ فتتجسد في : بغض الظلم ونبذ الظالمين ونشر القيم وفق منهج القدوة المعصوم  الذي هو الرسول او النبي او الامام. 

واما الاليات المتبعة في بلوغ تلك الأهداف؛ فليس الا الثبات على تلك الاهداف والصبر عليها مهما كانت التضحيات والاحتساب عند الله تعالى.

ولن تجد اليوم على الارض واقعا لظاهرة الرسل في العلل والاهداف والآليات الا نهضة الحسين عليه السلام. 

وهي ايضا ليست فقط من واقع ظاهرة الرسل عليهم السلام على الارض ، بل هي واقع متجسد الى الان والى ما شاء الله تعالى من الدهور، بسبب استذكار تلك النهضة بذات العلل والأهداف والآليات من خلال الشعائر الحسينية.

وسنبين ذلك في الحلقات التالية انشاء الله تعالى بالتفصيل.

 فمما شاء الله تعالى في نهضة الحسين عليه السلام؛ الا  ان يكون لها انصار وشعائر لا زالت تتواصل منذ يوم استشهاده عليه السلام والى ما شاء الله تعالى، وليس لؤلئك الانصار ولتلك الشعائر ولتلك الآليات الا ان تكون ذات العلل وذات الاهداف وذات االنهج لظاهرة الرسل عليه السلام فهي امتدادا تاريخيا وروحيا لها.

فالرحمة علة واضحة في كل تفاصيل نهضة الحسين عليه السلام  من اولها الى نهايتها، والصبر والثبات على المبدأ في نبذ الظلم وعداوة الظالمين نهجه في السبيل الى ربه  فقد كتب الحسين عليه السلام في وصيته في خروجه الى العراق حين حرج: (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف يابن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي صلى الله عليه وآله اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين)( ) 

وحتى في اخر لحظة من حياته عليه السلام يقول: (صبراً بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم)( ). 

وكان منه عليه السلام درسا للصبر لأهل بيته وعياله، ودعاهم إلى الصبر والتحمل قائلاً: (انظروا إذا أنا قتلت فلا تشقّن عليَّ جيباً ولا تخمشن وجهاً)( ) ، وتحمّلت أخته زينب ثقل هذه الملحمة الدامية، وكانت كل لحظة من وقائع الحادثة تعبيراً عن المقاومة والثبات، وحتى الكلمات الأخيرة التي تلفظ بها سيد الشهداء حين سقط على الأرض إنمّا تعكس هذه الروح من الصبر والصمود، إذ قال: (صبراً على قضائك)( ).

ونتيجة للمظلومية الكبرى في التاريخ الانساني تحولت نهضة الحسين عليه السلام  الى واقع تحياه البشرية بما يستذكره الاشياع غلى مر الدهور والأزمان من هذه المظلومية، ولذا نجد احسن ما قيل في الحسين عليه السلام هو ما قالته النخب من العلماء والفلاسفة والأدباء والقادة  والمصلحين العالميين المعروفين من ابناء الانسانية من كافة الملل والمذاهب والأديان في شرق الارض وغربها.

اذن فنحن الوحيدون على الارض الذين نغذي ظاهرة الرسل بالحياة من خلال شعار الحسين عليه السلام  ونسترجع تلك الظاهرة باسترجاع علتها واهدافها وآلياتها. 

كيف يمكن القول بان نهضة الحسين اسست واقعا رساليا؟:

السوال هنا : كيف تسنى لنا استرجاع ظاهرة ارسال الرسل والبقاء في امتدادها من خلال نهضة الحسين عليه السلام؟

الجواب: اما العلة في تلك الظاهرة وهي الرحمة فتتجلى في ابسط اشكالها في البكاء على مظلومية الحسين عليه السلام سبط رسول الله صلى الله عليه واله ، وسيد شباب اهل الجنة، نعم ويبدو واضحا جدا في هذا السلوك الجمعي للملايين الباكية.

فبكاء الملايين لمظلومية اهل البيت عليهم السلام  يعزز سايكولوجية بغض الظالمين والنفور من الظلم الذي هو شعار الانبياء والرسل عليهم السلام، وفي نفس الوقت يكرس الاتباع والوفاء والتاسي بالنموذج الاحسن لحب الله تعالى و اباء الضيم والإيثار والتضحية والصبر وكل القيم الانسانية الراقية  التي ابرزها سلوك الحسين عليه السلام واصحابه واهل بيته صلوات الله عليهم اجمعين يوم الطف.

ان استذكار مظلومية الحسين عليه السلام بشكلها البشع والفضيع مع كل عام ودوما ؛ يستدعي علة الرحمة ، وتظهر في افعال الشعائر الحسينية الحزينة، وفي ذات الافعال يتجسد بغض الظلم ونبذ الظالمين الذي هو شعار كل الانبياء والرسل عليهم السلام .

اذن فقط وفقط لا تمتد ولا تتحقق شعارات الرسل والأنبياء ولا يظهر امتداد لأهدافهم على الارض الى الان الا من خلال استدعاء نهضة الحسين بشعائرها.

انه السر الرباني والحكمة الراتبة في ضرورة بقاء سنة ارسال الرسل باقية حية بدم الحسين عليه السلام.

ان ما يلفت النظر بالنسبة للناس هو ان ترى احد يبكي ويكون اشد في لفت الانتباه اذا كان الباكي يبكي بحرقة وصراخ ويكون اشد اذا رافق ذلك تعبيرات سلوكية تدل على شديد الحزن، فكيف اذا كان البكاء يقع في سلوك جمعي يبلغ اعداد هائلة وفي موضوع واحد؟

نعم ؛ هذا السلوك الجمعي في البكاء قد لا يلفت النظر بالنسبة لمن يعيشون بالقرب او في الجوار، بسبب تعودهم وتكرار المنظر امامهم، ولكنهم لابد ان يتأثروا وان لم يعرفوا ان يتساءلوا عن سبب هذا البكاء؟ ولابد ان يجدوا الجواب الذي فيه نبذ للظلم وعداوة للظالمين.

ان في البكاء على الحسين عليه السلام سر حقيقة التوحيد الصادق لله تعالى وسر سريان العدل في الارض... كيف؟

الجواب يكمن في فهم :  متلازمة الظلم والشرك:

فقد ارسل الله تعالى الرسل عليهم السلام بالعدل والتوحيد، الا ان الاثنين من بدهيهات السنن التي يجري بها الكون، ولذا فان سريان البديهي امر غير ملفت للنظر لانه بديهي كعيشنا في محيط من الهواء، وكعيش السمك في محيط من الماء، لا نلتفت اليه الا اذا خرجنا منه، والظلم خروج من العدل والشرك خروج من التوحيد. ولان الخروج عن البديهي يمثل صعقة في سريان الموجود المخلوق، لذا اشار الله تعالى الى سمة الأئمة الحق ؛ بعدم الظلم ، ولم يشر بشكل مباشر الى العدل؛ قال تعالى مجيبا على تساؤل ابراهيم عن سمة الائمة من بعده؟: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: 124]. 

وكذلك اشار الله تعالى في كتابه العزيز الا ان اعظم انواع الظلم هو الشرك بالله لأنه خروج على الحقيقة الكونية الكبرى. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]

اذن ماذا نحتاج للاعتصام بالأصول الكبرى للدين ومناهج الرسل عليهم ألسلام ؛ وهما العدل والتوحيد؟

نحتاج الى عداوة الظالمين والتبرء منهم ونبذ الظلم .

فعدم الظلم هو سبيل للعدل، وعدم الظلم ايضا سبيل للتوحيد. وكل هذا يحققه لنا الحسين عليه السلام في نهضته ومن خلال شعائره. فذلك هو سبيل الرسل ولاغيره سبيل انه واقع صنعه الحسين لامتداد ظاهرة ارسال الرسل عليهم السلام فهو الوارث لهم.

والسبيل الى ذلك يتحقق في عداوة الظالمين اعداء الله لاحظ نهج الرسل عليهم السلام  كيف يختطه القران ولاحظ كيف ان الحسين يحقق ذلك:

تمعن في قوله تبارك وتعالى:

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة: 114].

ونحن نتبرء من الظالمين ونلعن اعداء الله في كل شعيرة من شعائر الحسين عليه السلام.

وفي نفس الموضوع لاحظ قوله تعالى:

{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} [الشعراء: 75 - 77].

وفي توضيح اشمل لمتلازمة التوحيد وعداوة الظالمين لاحظ قوله تعالى:

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)} [الممتحنة: 4].

نحن الوحيدون على الارض وبفضل الحسين عليه السلام نتاسى بابراهيم عليه السلام ونكون مصداقا لهذه الاية بفضل الحسين عليه السلام.

اذن فمع الحسين وثورته وفي اقامة شعائر الحسين عليه السلام يتحقق لنا التوحيد الخالص لله تعالى وبه نعتصم من الظلم ونتبرء من الظالمين ونلعنهم ونبكي على المظلوم صباح مساء.

ولذا فعلى طول تاريخ البشرية كان البكاء على الحسين عليه السلام يقض مضاجع الظالمين ، بل كل شعائر الحسين كانت ترعبهم والى الان والى ما شاء الله تعالى.

نحتاج فقط الى ان تكون شعائر الحسين عليه السلام في موضعها من سنن الله تعالى فى في العدل والتوحيد ، وان نكون صادقين في نبذ الظلم حتى من انفسنا، وصادقين في عداوة الظالمين حتى مع اقرب المقربين الينا.

الواقع الرسالي الذي اسسته نهضة الحسين عليه السلام على الارض بضخ الحياة في دعوة الرسل عليهم السلام وتنشيط امتدادها في التوحيد والعدل على الأرض وكلاهما يتمثلان في؛ نبذ الظلم وبغض الظالمين والتأسي بالمعصوم ، وكل هذا توفره لنا نهضة الحسين عليه السلام من خلال شعاراتها وشعائرها ، بشرط ان نكون صادقين؛ في نبذ الظلم حتى من أنفسنا، وعداوة الظالمين مهما كانوا ، حتى ولو كانوا اقرب الناس الينا. وإلا فلا جدوى من أي شعيرة تقوم باسم الحسين عليه السلام فقد قتله الظالمون!!

الظالمون قتلوا الحسين عليه السلام ، فهل يصح ان نبكيه ونلعن الظالمين!!، والحسين عليه السلام نهض ضد الظالمين ونحن نحي نهضته بشعائر الحزن على مصاب الحسين عليه السلام، فكيف يسوغ منا الظلم؟ وكيف يسوغ منا ان نوالي الظالمين؟

بمعنى ان نهضة الحسين عليه السلام اختطت منهجا لا يمكن لموالي الحسين مخالفته.

اذن لابد ان يكون كل من يوالي الحسين عليه السلام بصدق عدوا للظلم والظالمين ليس فقط من خلال شعاراته التي يرفعها وشعائره التي يمارسها، بل في كل ما يصدر عنه من افعال.

فاذا كان هذا حقا ما يحصل مع اتباع الحسين عليه السلام، فان ملة محمد صلى الله عليه واله لا تتمثل اليوم وفي الارض كلها الا في الموالين للحسين عليه السلام، لأهم اصحاب رسالة حية، بذات علة الرسل عليهم السلام، وهي الرحمة وبذات غايات الرسل عليهم السلام وهي نبذ الظلم وعداوة الظالمين، وبذات منهاج الرسل عليهم السلام في التوحيد وهو نفي الشرك عن الله تعالى الواحد الأحد .. والعدل ، وهو في الظاهر عدم اتيان الظلم، وفي الباطن معرفة الحق وإجراء الامور والأفعال وفقا للحق، والواقع ليس في الارض ملة تعرّف بالحق الا ملة الموالين لآل محمد صلوات الله عليهم.

وهنا يكمن السر في استشهاد الحسين عليه السلام، بل وفي معنى خاتمية رسالات الرسل عليهم السلام، ففي نهضته واستشهاده عليه السلام ليس فقط حفظ الدين وحصانة الامة في ثلتها التابعة للعترة الهادية، بل اسس لبقاء سنة ارسال الرسل عليهم السلام حية في كل معاني ظاهرتها من العلة الى الهدف، فسبحان المدبر المقدر المرتب لبلاء الحسين عليه السلام.

بلاء الحسين راتب من اجل الانسانية جمعاء:

ونستطيع ان نتبين ونستوضح ذلك من تتبع هذا البلاء الراتب الذي تعرض له الحسين عليه السلام من مجمل سيرته الشريفة، بما هو سبط النبي صلى الله عليه واله وسيد شباب اهل الجنة وريحانة الرسول وهو من النبي والنبي منه..وبما هو من منزلة اهل البيت لا يدانيهم احد في الكون من الله ورسوله صلوات الله عليهم. ولكن عندما حصل الانقلاب وآلت الامور الى نسل الافجرين(8 )، ثم الى حزب ابناء فتيات قريش والملك العضوض، وصار يزيد الفاجر ملكا بمسمى خليفة لرسول الله صلى الله عليه واله ، وطلب من الحسين عليه السلام ان يبايع لهذا الفاجر، عندها انتفض الحسين بعلة الرسل وبشعارهم مذكرا بقول جدّه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرُم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسنة رسول اللّه، يعمل في عباد اللّه بالاِثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله( 9).

وعندما دعي لمبايبعة الفاسق يزيد قال عليه السلام : (إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله...)( 10).

وعندما انطلق الى العراق قال الحسين عليه السلام عن رؤيا جده صلى الله عليه واله يقول له:

 ((يا حسين اخرج فان الله قد شاء أن يراك قتيلا فقال محمد ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال ؟ قال: فقال [لي صلى الله عليه واله]: إن الله قد شاء أن يراهن سبايا، فسلم عليه ومضى (11 ). 

فهو اذن متوطن بما يعلمه من حتم لقاء الله تعالى بابتلاء راتب ، ويؤكد ذلك رده عليه السلام على اعتراضات عبد الله بن العباس وعبد الله بن الزبير فأشارا عليه بالإمساك عن الخروج للعراق ، فقال لهما: إن رسول الله قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه)(12 ).

والذي يؤكد ان الامر مقصود من قبل الحسين ومرتب من قبل الله تعالى ايضا قوله عليه السلام في رسالة الى بني هاشم : (سم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى بني هاشم؛ أما بعد فإنه من لحق بي استشهد و من تخلف عني لم يبلغ الفتح و السلام(13 ).

بمعنى ان الشهادة تنتظره عليه السلام حتما في مسيرته، كما يرتب الله تعالى للرسل عليهم السلام في رسالاتهم التي هي ظاهرة ربانية مرتبة لا يخلو منها زمان ولا مكان.

ترتيب ابتلاء الحسين عليه السلام، يعلمه اهل البيت صلوات الله عليهم من اول يوم ولادته، وحين سلم الرسول التربة التي اتى بها جبرائيل الى ام سلمة في قارورة واخبرها ان تحول هذا التراب الى دم، فانها علامة تدل علة مقتل ولدي الحسين( 7). واخبار كثيرة اخرى تدل على هذا الترتيب الرباني لزمان يخلو من ظاهرة الرسل، بعد الختم بالمصطفى صلوات الله عليه واله وغياب المعصوم ، فكيف يكون لسنة الله تعالى التي لا تتغير ولا تتبدل ان تستمر على الارض؟

لقد كان بلاء الحسين عليه السلام الذي تمثل في نهضته، اساسا لاستمرار تلك السنة باستدعاء علتها؛ الرحمة ، وبقيام شعاراتها في نبذ الظلم وعداوة الظالمين، وفي منهجها للتوحيد بنفي الشرك عن الله تعالى، وبقيام العدل في معرفة الحق اولا، حيث لا يمكن للعدل ان يقوم دون معرفة الحق، فالعدل هو اعادة الحق الى نصابه.

ان نهضة الحسين عليه السلام منهاج عملي علمي في ابسط احواله الى معرفة الحق، وتميز الباطل لأنها شخصت الانحراف والمنحرفين، وبينت اين تكمن القراءة الصحيحة وكيف اختلطت الاوراق، ومن اين جاءت القراءات الخاطئة للإسلام بداية وتمهيدا لدولة العدل الالهي العالمية بقيادة الثائر الاكبر حفيد الحسين عليه السلام المطالب بثاراته عجل الله فرجه الشريف.

 

المصادر:

  1 ) الانبياء – 107.

  2 ) الانعام – 12.

  3 ) مقتل الخوارزمي 1: 188.و (حياة الإمام الحسين 246:2 و 288).  وبحار الأنوار - العلامة المجلسي (44/  329-330).

  4) نفس المهموم:135

  5) اللهوف:81

  6 ) موسوعة عاشوراء - الشيخ جواد محدثي (ص: 386)، و(مقتل الحسين للمقرم:357)

7  ) الافجران هم بنو امية  وبنو المغيرة ، لاحظ  تفسير الكشاف للزمخشري:ج2:ص: 432. وتفسير البيضاوي ايضا: ج 3 /ص: 160.

8 ) تاريخ الطبري: 4|304 حوادث سنة 61.

9 ) بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج:44/  325.

10 ) كتاب الملهوف ص 53 - 56.

11 ) بحار الأنوار - العلامة المجلسي (44/  364،

12 ) مثير الأحزان (2/  26) ، و الخرائج والجرائح (2/  279)، ومستدرك سفينة البحار: ج 42 / 81 ، وج 44 / 330، وج 45/85 و87 و مناقب آل أبى طالب 2: 199.و بصائر الدرجات ص 482

13  ) مثير الأحزان (3/  24) ، بحار الانوار 44: 331، العوالم 17: 180، ينابيع المودة: 405 الى قوله بكت ام سلمه بكاء شديدا. الخرائج والجرائح 1: 253، وايضا تكرر في بحار الانوار 45: 89 حديث 27.

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك