الوحدانية في الاستدامة (الدائم في وحدانيته)

1989 2016-08-01

قال أمير المؤمنين عليه السلام:

(الحمد لله الأول فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه) ( 1).

هذا تعبير عن صدق الديمومة وثباتها لله تعالى، والذي يعبر عنه عليه السلام في مكان آخر بقوله: (تبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم، ولا يناله حسن الفطن، الأول الذي لا غاية له فينتهي، ولا آخر له فينقضي) ( 2).

وفي نفس المعنى يقول عليه السلام: (الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، بأوليته وجب أن لا أول له، وبآخريته وجب أن لا آخر له) ( 3).

وفي بيان أوضح يقول الإمام عليه السلام في معنى ديمومته سبحانه:

(ليس لأوليته ابتداء، ولا لأزليته انقضاء، هو الأول لم يزل، والباقي بلا أجل) (4 ).

ويقول عليه السلام في هذا المعنى:

(واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد، وقائم لا بعمد، تتلقاه الأذهان لا بمشاعره، وتشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط به الأوهام، بل تجلى لها بها، وبها امتنع منها، وإليها حاكمها) ( 5).

ونحن نجد على صعيد الواقع أن الموجود كلما اكتسب من عناصر الاستدامة في وجوده، كلما صعب تجليه، وكلما كانت استدامته جزئية كلما كان تجليه ممكناً؛ في حين يكون الموجود السريع التغير، شديد التجلي واضحاً للحواس، بل يجذب الحواس جذباً.

مثال: وجود مصباح مستديم في إضاءته، وآخر يشتعل ثم ينطفئ بالتناوب، فإن الذي يلفت الإحساس بالنظر لوجوده هو المصباح الذي لا يتمتع بالاستدامة في إضاءته؛ أما المستديم الإضاءة فإنه لا يلفت النظر كثيراً.

ولذا فإنه لهذا السبب توضع في الأماكن العالية والأبراج مصابيح تضيء وتنطفئ لتجلب النظر أثناء الليل للطيارين تحذيراً لهم من الارتطام.

ومثال آخر: الجاذبية الأرضية بما لها من عناصر الاستدامة على جسم الإنسان، فإنه يكاد يتجاهلها.

إن وجود الجاذبية أقوى من وجود الإنسان وأدوم، ولكنه بسبب حيازته لعناصر من الاستطالة والديمومة يصعب جداً على الإنسان الإحساس بها، وإن كان له حظ من العلم فإنه يدركها ولا يحسها، لأنه يلاحظ تأثيرها غير المباشر من خلال حركة الأجسام وسقوطها، وقد يحصل أنه بحساب درجات السلم وهو يصعد يعطي قوة إضافية لقدمه، فيضحك لأنه يعلل ذلك بخطئه، وليس لاستدامة الجاذبية عليه، وعندما يهرم أو يمرض ويتحتم عليه صعود سلم يحس بتجلي الجاذبية.

إن الإنسان بل والكون كله يعيش في بحر مستديم من الجاذبية لكن لا تجلي لهذا المحيط المذهل، ويكلفنا مئات الأطنان يومياً وفي كل لحظة دون أن نشعر به، بل إن رواد الفضاء يتدربون على الحركة في أجواء من انعدام الجاذبية كي يتعلموا كيف يتصرفون، فلرب حركة إعتادها في جو استدامة الجاذبية تفقده يده أو رجله أو تكلفه كثيراً.

والجاذبية مخلوق موجود باستدامة جزئية يصعب تجليها للحواس، فكيف يتجلى المستديم المطلق!! الذي يقول عنه الإمام عليه السلام: (الدائم بلا أمد).

فسبحانه الجلي الذي لا يتجلى والدائم الذي لا غاية له فينتهي ولا آخر له فينقضي.

الوحدانية في الثبات:

الثبات يعبر عنه أمير المؤمنين عليه السلام إذ يقول: (الحمد لله الذي لم يسبق له حالٌ حالاً... )( ) فالثبات هو الاستقرار دون الجمود، وهو في الموجودات حالة عدم تغير الطور الوجودي لها مع الزمن، وهناك من الموجودات ما يتمتع بالثبات الجزئي في هذا المعنى، فالموجود إذا لم يتغير طوره، يصعب تجليه للحواس لدرجة الاستحالة.

والطور هو النمط الوجودي للمخلوق، كأن يكون محض طاقة، فالطاقة الكامنة مثلاً وجود لا يتجلى مع أنه كائن في كل جسم.. أو يكون إشعاعاً لموجة كهرومغناطيسية، أو يكون لوناً أحادياً – أي غير متحد مع جسم – أو محض سائل لا يتحول إلى صلب أو غاز، أو غازاً مطلقاً لا يتحول إلى سائل أو صلب، أو مثل حالة البلازما، حيث تتمتع بشكل ثابت وحجم متغير.

إن تمتع الموجود بالثبات الجزئي يجعل من الصعب تجليه للحواس، فكيف بالله سبحانه وتعالى الذي يصف الإمام علي عليه السلام ثباته المطلق بقوله: (الذي لا يشغله شان ولا يغيره فان، ولا يحويه مكان ولا يصفه لسان) ( 6).

ويقول عليه السلام في معنى ثباته في مكان آخر: (الدال على قدمه بحدوث خلقه وبحدوث خلقه على وجوده) ( 7).

ويصف عليه السلام ثبات الله تعالى بقوله: ( واحد لا بعدد) (8 ).أو بقوله عليه السلام: (الأحد لا بتأويل عدد).

لأن التعدد خروج على الطور فلا ثبات.

مثال: من الثابتات الجزئية من الموجودات الضغط الجوي: وهو قوة تسلط على السنتيمتر المربع الواحد ثقلاً يساوي عموداً من الزئبق طوله 76سم زئبق عند سطح البحر.

والآن لو قلت لأي شخص أنك تحمل على جسمك حوالي 6 أطنان فعلية من موجود اسمه الضغط الجوي، فإن كان من أهل العلم فإنه يصدقني ولكن لا بحواسه بل بعلمه، أما إذا لم يكن من أهل العلم، فلا يصدقني.

والسبب: هو أن الضغط الجوي من الثوابت، وهو الذي يولد به الإنسان ويعيش حتى منتهى أجله، نعم قد يتغير عند الناس الذين يغوصون إلى أعماق سحيقة في البحر أو عند الطيارين الذين يجازفون بارتفاعات هائلة، ولذا فهذا التغير يصير مبعثاً للإحساس بالضغط الجوي كوجود حقيقي عند هؤلاء المجازفين فقط.

والضغط الجوي موجود ذو ثبات جزئي، فكيف بالمطلق في ثباته سبحانه؟ هل يمكن تجليه!؟.

(سبحان الرادع أناسيّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه) (9).

وأناسيّ الأبصار هو البؤبؤ ربما عظمتها مع صغرها نسبة إلى عظمة الله وهو الكبير المتعال.

الوحدانية في السعة: 

السعة هي الكبر والامتداد في أبعاد الموجود الوجودية، فكلما كبرت وامتدت أبعاد الموجود في وجوده كلما صار ممتنعاً على الحواس أن تستجليه.

مثال ذلك كبر سعة الموجة الصوتية كلما ابتعدت عن مصدرها لا يعدم وجودها ولكن يعدم تجليها للسامعة.

مثال آخر اتساع وجود الجاذبية على الأرض يعدم تجليها، وكذا اتساع وجود الضغط الجوي في محيط الأرض يعدم تجليه للحواس.

وعلى العموم فمن الواضح أن الاتساع في كل شيء يتنافى مع محدودية الحواس في قدراتها على الإحاطة بالمحسوس.

والله سبحانه وتعالى كما يقول الإمام عليه السلام: (لا يشمل بحد ولا يحسب بعد، وإنما تحدّ الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، منعتها منه القدمية، وحمتها عنه الأزلية، وجنبتها لولا التكملة، بها تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون والحركة... ).

إنه سبحانه وتعالى وسع برحمته وعلمه وسلطانه كل شيء فلا حدود لسعته، وإذا كانت الحواس قاصرة عن استجلاء مخلوقاته لسعتها فكيف تدركه وتحيط به!!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

   1) نهج البلاغة (محمد عبده) الجزء الأول ص 184.

   2) نهج البلاغة (محمد عبده) الجزء الأول ص194.

   3) نهج البلاغة (محمد عبده) الجزء الثاني ص65.

   4) نهج البلاغة (محمد عبده) الجزء الثاني ص115.

   5) نهج البلاغة (محمد عبده) ج1 ص112.

   6) نفس المصدر ج2 ص115.

   7) نفس المصدر ج2 ص97.

   8) نفس المصدر ج2 ص40.

   9) نهج البلاغة ج1 ص161.

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك