تقرير: فيصل غازي/صباح الطالقاني
لقد اصطفى الله عز وجل بلاد ما بين النهرين (العراق) لتكون منبعا لرسالات العديد من الأنبياء في الدعوة والتبليغ، بل إن هذا البلد روضة تحتضن بين ثناياها الشهداء والصديقين والأولياء، ومتحف كبير يضم في أرجائه تاريخاً حافلاً بسجل الإنسان على الأرض وآثاره في مختلف الأزمنة والدهور، والتي تحكي بصورة واضحة قصته مع الحضارة بمختلف تسمياتها وأزمانها.
ومن تلك الآثار الشاخصة أرض برس (بورسيا) وهي قرية في بابل، وتحديدا بين الكوفة والحلة، وبورسيا هو الاسم الأقدم للمنطقة التي تضم مقام ولادة النبي إبراهيم عليه السلام، وعلى مقربة منه صرح النمرود، الطاغية الذي أراد محاربة خليل الله حتى وصل به الامر لبناء محرقة مازالت آثارها شاخصة حتى اليوم، لإحراق ابو الانبياء ولكن النار كانت بردا وسلاما على ابراهيم بأمر الله -عز وجلّ-
واختلفت الآراء حول شخصية والد إبراهيم عليه السلام فمنهم من قال ان آزر هو والده وآخرون قالوا أن والده تارخ وقد ذهب أصحاب الرأي الأول إلى ما ورد في الآية الكريمة (إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين). وأما أصحاب الرأي الثاني فقد قالوا إن أزر عمه وليس أبيه لأن أباه تارخ فقد نقل الأفاضل انه لا خلاف بين النسبين أن اسم والد إبراهيم تارخ وهذا غير مستبعد لاشتهار تسمية العم بالأب في الزمن السابق، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله ذلك بقوله: (لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، حتى أخرجني في عالمكم هذا، لم يدنسني بدنس الجاهلية) ولو كان في آبائه كافر لم يصف جميعهم بالطهارة.
وفي جولة لمجلة (الروضة الحسينية) بين ثنايا هذا المقام الشريف الذي يقع على ربوة عالية تحيط بها البساتين، وبمقابلها على ربوة أخرى يقع صرح الطاغية النمرود الذي لعنه الله تعالى وخسف معبده الوثني.
التقينا في هذا المكان خادم المقام (ابراهيم عبيد حميد) فقال" هذا المقام يوحي بالقصة المعروفة التي حدثت بين الطاغية النمرود والنبي ابراهيم عليه السلام، حيث أشار كهنة النمرود بأن وليدا جديدا في ذلك الزمان سيقضي على النمرود، ولذلك قام هذا الطاغية بالإيعاز إلى جنده بقتل كل طفل في هذه المنطقة، وهذا الامر دعا أم إبراهيم عليه السلام لأن تخفيه عن الناس فوضعتهُ في المغارة التي هي الآن سرداب يقع تحت قبة المقام الشريف مباشرة".
ويضيف عبيد" والمقام عبارة عن مجمع متكامل حيث الصحن ذو الفسحة الواسعة التي تطل على بابَين أمامي وخلفي، ويحتوي المقام من الداخل على رواق يحيط بمركز المقام من جوانبه الأربعة ويغطي مساحة 256م2، وتطل منه على الصحن بابان أحداهما المدخل الرئيسي لمركز المقام والأخرى تقع في الجهة المقابلة لهذا المركز".
وتابع ابراهيم" أما الحرم الداخلي للمقام فهو عبارة عن حجرة يتم الدخول إليها بعد أن نرتقي أربع درجات تقع في الجهة الداخلية، وفي جانب باب المقام من الداخل هناك سلَّم ذو سبع عشرة درجة تؤدي بك نزولاً إلى المغارة التي ولد فيها إبراهيم الخليل عليه السلام، والمغارة بنفس مساحة الحجرة التي تعلوها بمساحة 24م2، وفي احد جوانب المغارة المقابل للسلَّم نلاحظ صندوق خشبي ملاصق للحائط يطل بشباكين على وسط المغارة وبشباك واحد على الجانبين الآخرين، أما أبعاد الشباك فهي1م عرضاً و2،5م طولاً و3م ارتفاعاً، ويوجد بداخله صخرة قياس (نصف مترx نصف متر تقريبا) تحتوي ثقوبا صغيرة يقال أنها الصخرة التي وُلد عليها إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل أيضا أنها الصخرة التي أغلقت بها أم إبراهيم المغارة بعد أن وضعت ابنها في داخلها".
وأوضح ابراهيم" على مسافة مترين أو اقل من هذا الصندوق هناك فتحة صغيرة في السقف تطل على الرواق الموجود في الأعلى بأبعاد (0،5م× 0،5م) ويروي اجدادنا أنها طريق الملائكة الذين هبطوا لحماية إبراهيم عليه السلام من كيد الكائدين، وتعلو الحرم الداخلي قبة خضراء بارتفاع عشرة أمتار وبقطر (5م) كُتب على طوقها آية (وإذ يرفع إبراهيم القواعد).
وعن مراحل الإعمار قال إبراهيم" أن آخر مرحلة إعمار شهدناها كانت عام 1963م والمقام اليوم بوضع غير جيد فهو بحاجة ماسة لإعادة بناء كاملة بدءا من السياج الخارجي وأرضية الصحن القديمة والمتكسرة، ومرورا بترميم الحرم والقبة واللوازم الكهربائية والصحية وغيرها".
وأما عن أثر النمرود تحدّثَ خادم مقام ولادة النبي ابراهيم الخليل عليه السلام (عباس سلمان) قائلاً" على بعد أقل من كيلو متر يتراءى لك صرح الطاغية الذي هو نمرود بن كنعان بن سنحاريب ابن نمرود بن حام بن نوح، وقد وُلد إبراهيم عليه السلام في عهده، وكان نمرود قد ملكَ الشرق والغرب واستعبدَ الناس وفرضَ عليهم نفسه ربّا، ولضعف الوعي الاجتماعي لدى الناس وسخافة عقولهم وقلة تفكيرهم اتخذوه مع أصنام لهم أرباباً من دون الله! فتوجهوا اليه والى أصنامهم بالعبادة والخضوع والخشوع! والظاهر أن هذا الصرح الكبير كان بناؤه مشيدا على طراز الزقورة المعروفة عند السومريين، وكانت هذه المنطقة المحيطة بنا الآن مركزا لمدينة برس التي هي مقر النمرود".
وختمَ عباس بالقول" ان ما ينقص هذا الصرح الحضاري والأثري والديني الكبير المتمثل بمقام ولادة النبي ابراهيم الخليل والذي يقصده الزائرون من داخل العراق وخارجه، انه لا توجد إدارة للمقام ولا توجيهات أو إرشادات دينية، فضلاً عن انعدام تواجد مفارز للحماية والتفتيش في المداخل، وهناك حاجة ماسة أيضاً إلى مكتبة عامة يستفيد منها الزائرون والعاملون في المقام حيث أجواء الهدوء والسكينة المتناهية في هذا المكان الشريف تشجع كثيرا على المطالعة والتزود بالعلوم والمعارف الدينية والتاريخية والثقافية".