حرب الميديا والأخلاق المهدورة


يعدّ التواصل البشري غاية من الغايات التي ينطوي عليها مبدأ الخلق الربّاني إلى جانب غايات أخرى كضرورة معرفة الله والتقرّب إليه بالعبادة، والتواصل أو الاتصال ظاهرة قد عرفتها المجتمعات الإنسانيّة منذ بداية تشكّلها الأول على الأرض، فهو ليس حديث العهد، لكن أدواته تطورت تطورا هائلا في عصرنا الحاضر، حتى صارت وسائله وأدواته الإعلاميّة التي تعرف بـ( الميديا ) سمة من سمات عالمنا اليوم، والميديا كلمة لاتينية ( يونانيّة ) مأخوذة من كلمة ( ميديوم ) وتعني الوسائط، وتشمل في وقتنا الحالي جميع وسائل الاعلام من صحف ومجلات وإذاعة وتلفزة وأنترنت، وغير ذلك من وسائط رقميّة جديدة استطاعت أن تحتوي كلّ الوسائل القديمة وتصهرها في بوتقتها ملغية الزمن ومختصرة المسافات، ممّا يجعل العصر الذي نحياه عصر المؤثرات الإعلاميّة بكل حقّ.

وتنهض وسائل الإعلام الجديد هذه بمهمّات عديدة تتوزع بين الترفيه والدعاية الإعلانيّة، والإخبار، فضلا عن القيام بوظائف أخرى تربوية واجتماعيّة وثقافيّة تُوصل إلى الناس ما يتلاءم مع قناعات وآراء القائمين على هذه الوسائل بغض النظر عن طبيعة توجهاتهم الفكريّة والأيديولوجيّة، لكن دون أن تتوقف هذه المهمّات عند هذه الحدود والوظائف ذات الطبيعة الأخلاقية العَذبة على ما يبدو، لأن هناك وظائف تضطلع بها الميديا لا تقّل شأنا عن إعلان الحرب وعن التربّص لتخريب الثقافات الإنسانيّة التقليدية والعتيدة.

فالإعلام الجديد - واطئ الكلفة وسهل الاستخدام - قادرٌ على صياغة عقول الجمهور، ولاسيما منهم الذين في مقتبل العمر، فالشباب من الجنسين في كل أصقاع المعمورة باتوا يتعاملون مع وسائل اتصال رقميّة متطورة لا تخضع إلى أي نوع من أنواع الرقابة والإشراف، ولا تُحجب عنها الصور والمشاهد الفاحشة التي يندى لها الجبين، وتقشعر منها الأبدان، وهذه أول ضربة تتوجه من هذه الوسائل المرتبطة بأجندات ثقافية غربية إلى المجتمعات المسالمة والمحافظة، وهي ضربة تقصد  بالتحديد، صميم هذه المجتمعات من الفئة المذكورة الذين هم عماد المستقبل وصمام أمان المجتمعات في كلّ الأمم الإنسانيّة.

ويحدّثنا تاريخ الإعلام الجديد عن أن أول عملية دعائيّة حكوميّة في العصر الحديث بدأت في أمريكا أيام الصعود العسكري الألماني في أوربا، ففي الوقت الذي كان فيه المواطنون الأمريكيون مسالمين جدا وبعيدين جغرافيّا عن التورط في حرب أوربية؛ كان على إدارة الحكومة الأمريكيّة آنذاك، التزامات خاصة إزاء الحرب الأمر الذي دعا لإنشاء لجنة دعاية حكوميّة نجحت خلال ستة أشهر في تغيير موقف المواطنين المسالم إلى موقف متعطّش للحرب ولتدمير كلّ ما هو ألماني! وقد اعتمدت هذه اللجنة مجموعة وسائل إعلاميّة فيها قدرٌ كبيرٌ من الفبركة والزيف والترويع من المذابح الوهميّة التي ارتكبها الألمان ضد القوميّات والعرقيات غير الجرمانيّة، وهنا تفعل الدعاية الإعلاميّة في الأنظمة السياسيّة الديمقراطيّة فعل العصا أو الهراوة في الأنظمة المستبدة والشموليّة، فبدلا من أن تسوق الجماهير بالعصا والتلويح بالقوة يمكنك دفعهم إلى ما تريد من خلال الدعاية الإعلاميّة الضخمة حتى وإن كانت دعاية مفبركة وكاذبة وبلا مضمون أخلاقي، وهنا مكمن خطورتها.

وتستمر شاشات الميديا العالميّة ومؤسساتها ووسائلها المختلفة في إنتاج برامج وصور لا تمت للموضوعية وللصدق بأية صلة، بل إنّها في أغلب ذلك لم تكن حياديّة على الإطلاق حتى في التعامل مع القضايا الداخليّة للدول التي تضم مثل هذه المؤسسات الضخمة. 

ولو عدنا إلى تأمل الدور الذي تلعبه بعض القنوات الفضائيّة العالمية والعابرة للقارات ممّن ترتبط ارتباطا مباشرا في إدارة السياسات العالمية لوجدنا هذه القنوات كالـ  (b b c)والـ(c n n)  والجزيرة والحرة والعربية، وسوى ذلك من قنوات مشابهة لم تعد مجرد قنوات تقوم بأدوار التثقيف والتوعية والترفيه، وإنّما هي قنوات تشكّل جزءا من أجهزة الضبط والرقابة والتحكم السياسي والاجتماعي في المجتمعات التي تتوجه لها هذه القنوات، ولا سيّما في القسم العربي منها، أي أنّها باتت جزءا ممّا يطلق عليه علماء الاجتماع المعاصرون (العنف الرمزي) الذي يتحكم به ويسيره القائمون على هذه القنوات لخدمة مصالح ومآرب بعيدو وخفيّة.

ولعلّ اللغة الإعلامية التي تتبعها هذه القنوات المذكورة تفضح أحيانا مآرب هؤلاء القائمين وتكشف عن نواياهم اللا إنسانيّة، فمطالعة الشريط الإعلامي الصغير في أسفل القناة بشكل دقيق يؤكد ما ذهبنا إليه، فحين يحدث انفجار في العراق او سوريا أو غيرها من البلدان العربيّة والإسلاميّة مثلا، فإنّه ( يحصد ) حسب تعبيرهم الذين درجوا عليه عشرة أو تسعة أشخاص، لكن لو حدث انفجار مماثل في بلد أوربي آخر فستتغير اللغة الإعلاميّة لا بسبب تغيّر المخاطَب، بل بسبب تغيّر الحدث وتداعياته حيث سـ( يقتل ) الانفجار المذكور أو سيزهق أرواح عشرة أو تسعة أشخاص.

لقد أدرك القائمون على هذه الوسائل أنّهم في حالة حرب لا هوادة فيها، وأيقنوا أنّ المجتمعات التي يتوجهون إليها بالخطاب ما هي إلّا أجهزة أو آلات من الممكن أن تخضع إلى أدوات تحكم وتوجيه، ولو عن بعد، بهدف تسييرها نحو غايات محدّدة سلفا، ودور آلات التحكم وأدوات التوجيه يتمثّل بمحاولة إحكام السيطرة على المحاور والتروس والحركات العامة التي تتم خلال هذه الأجهزة أو الآلات أي (المجتمعات ) وربمّا كان الدور القذر والخطر الذي قامت به هذه القنوات في ما يعرف بثورات الربيع العربي خير دليل على ذلك. بل إن الدور اللا أخلاقي الذي قامت به هذه القنوات قد استمرّ تأثيره حتى في مرحلة سقوط بعض الأنظمة العربيّة في هذه الثورات، بغية الوصول إلى تدمير البنية الثقافيّة والاجتماعيّة لمجتمعات الربيع العربي، بحيث صار القتل المجاني والاغتصاب والاعتداء على الأملاك العامة وتكفير المخالفين والحط من قيمتهم الاجتماعيّة هي الثقافة السائدة في تلك المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، وهي القيم التي لا يُعلى عليها، وهي بالتأكيد ثقافات وقيم دخيلة لا تمت للإسلام الحقيقي القائم على المحبة والتسامح واحترام إنسانية الإنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ومعتقده!

 

 

 

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك