أقسمُ إنّي ابنك!

1169 2013-07-05



أجرى الحوار وأعدّه: فضل الشريفي- عبد الرحمن اللامي

سلسلة حلقات تبيّن العداء المستحكم في نهج البعث المتغطرس، وفي نفوس البعثيين الظلامية ضدّ الإسلام والشعائر الإسلامية، في لقاء حواريّ مع الضحايا أنفسهم، أو مع ذوي الشهداء السعداء.

لم يعد خافيا على أحد ما كان يرتكبه حزب البعث وجهازه الحاكم في الأيام السالفة من جرائم لا تُعدّ ولا تُحصى، فقد اقترفتْ حكومة البعث أبشع الجرائم في تاريخ العراق والإنسانية، وخير شاهد على ذلك ما نراه اليوم من المقابر الجماعية للعراقيين على اختلاف قومياتهم، ومارس المجرم المقبور صدام حسين أشرس الأساليب غدراً ووحشية، وصادرت حكومته أبسط الحقوق الطبيعية، ولم تتردد في اقتراف أيّة جريمة مهما كانت، ومع مَن كانت، حتى تجرّأت بضرب المشاهد المقدّسة لأئمة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام)، وأنّ القاصد لزيارتهم مذنب لا يُغتفر له، قد يُعدم المرء عليه أو يُسجن، ويذوق الويلات والآهات، لا لشيءٍ سوى أنّه ذهب الى زيارة مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) أو مرقد غيره من الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، ومن هؤلاء الضحايا الذين عُذّبوا وسجنوا السيد (علي جبوري فليح) من مواليد كربلاء 1975م يعمل حالياً منتسباً في وزارة الداخلية، يروي لنا جانباً من المشاهد المؤلمة التي مرّبها:

البداية؟

دأب اتباع أهل البيت عليهم السلام في الذكرى السنوية لوفاة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الثامن والعشرين من شهر صفر المظفّر أن يذهبوا لزيارة مرقد أخيه ووصيّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في النجف الأشرف.

توجّهنا مشياً إلى مرقد أمير المؤمنين (عليهم السلام) عام 2000 وكان الوقت ليلاً، ومعي أبناء منطقتي وعددنا يقارب (18) شخصاً، وسلكنا الطرق الفرعية خوفاً وحذراً من أزلام حزب (البعث المجرم)، وكنت اقرأ لهم القصائد الحسينية في المسير.

وفي فجر اليوم الثاني ونحن نُكمل مسيرنا تعرّض لنا شخصان من أزلام حكومة (المقبور صدام) وصار بيننا مشادّة كلامية، وفي هذه اللحظات جاءت مجاميعهم في عدّة سيارات وراحوا يُطلقون النار علينا، حتى قُتل أحد أصحابنا وضربونا وقيدونا وأخذوا كل ما نمتلكه من مال وخواتيم وساعات وغيرها، ثم نقلونا إلى شعبة الحزب في محافظة كربلاء.

فقدتُ سمعي لأنني جعفري

وفي غرفة لا يتجاوز مساحتها (12م2) من ضمنها الحمام، وفيها أكثر من (70) معتقلاً، والنوم فيها من جلوس لضيق المكان، أما ماء الشرب فهو ساخن لشدّة حرارة الشمس، والأكل (قوت كي لا تموت) رغيف خبر واحد لخمسة أشخاص، وقدح شوربة ليوم واحد، وبين ساعة وأخرى يجري تعذيبنا بأشدّ العذاب بالعصي والكيبلات.

وحينما فتّشوا ممتلكاتي التي كانت معي وجدوا صورة لمرقدي الإمام الحسين واخيه العباس (عليهما السلام)، فسألني الضابط: هل أنت جعفري؟! فقلتُ نعم، فانهال عليّ ضرباً مبرحاً على وجهي حتى توقّفتْ أذني اليمنى عن السمع والى اليوم أنا لا أسمع بها.

أمّي أنا ابنُكِ قسماً بالله!

بذل والدي الكثير من المال رشوة لكي يراني ولو لمرّة واحدة، وفي صباح يوم من الأيام نادوا باسمي فأخذني الحرس ـ (عبد الله هُبل) وكان معروفاً بإجرامه وتهتّكه ـ بعدما قيّد وثاقي وشدّ غطاء عيني، الى إحدى الغرف في دائرة الأمن الرئيسية، وكانت آثار اللكمات بادية على وجهي وفي كلّ مكان من جسمي، وحزوز القيود في معصميّ والدمّ يسيل منهما، وثوبي لا يسترني لأنه ممزّق من كلّ جانب، وهناك رفعوا الغطاء عن عينيّ، وفكّوا قيودي، وإذا بي أمام أبي الذي كانت تجلس بجنبه امرأة ملتحفة بعباءتها، ولا يُرى منها شيء، رحتُ من فوري معانقاً أبي وهو يقول لي:

ـ سلّم على والدتك يا بنيّ، ولمّا سمعتُ بأنّ والدتي في محضري انتابتني هزّة من أعماقي اشتياقاً لمعانقتها وتقبيلها وتوجّهتُ صوبها كي أسلّم عليها ولكنّها تنحّتْ جانباً وهي تقول:

ـ مَن أنت؟! أنت لستَ عليّاً ولدي فعليٌّ طويل وسمين، لقد تجمّدتْ أعضائي كلُّها حين سمعتُ كلماتها هذه، وتلعثم لساني ولم أعرف بماذا أردّ عليها، وانفجرتْ هي بالبكاء والصراخ فانفجرتُ معها ولم أتمالك نفسي فرحتُ أعانقها وأقبّلها من يديها ومن رأسها وأنا أقول:

ـ نعم يا أمّي أقسمُ بالله أني ابنك، فإنّ المجرمين كسروا ظهري، وقلعوا أظافري، وأذاقوني الويل لأني زرتُ الأمير. ولمّا سمع الضابط كلماتي هذه ثارتْ ثائرته وراح يصرخ بوجه الحرس:

ـ هُبل! خذه بسرعة وأرجعه الى المحجر فإنه لا يستحقّ أن يرى والديه أبداً، وجرّني هُبل المجرم بقوّة من بين أذرع والدتي وهي تتوسّل إليه قائلة:

ـ أرجوك دعني أتزوّد منه أكثر، وبالله عليك لا تؤذيه فإنّه ما زال صغيراً ولا يعرف كيف يتصرّف.

ولم يتركني هذا الحرس المتغطرس وراح يُشبعني ضرباً بكلّ قواه حتى داس فمي بحذائه فسمعتُ صوت أضراسي تتكسّر، وتخالف فكّاي من شدّة الضغط عليهما فامتلأ فمي بالدمّ، وفقدتُ الوعي من لحظتها.

التابوت الأحمر!

في ليلة 13رجب المرجّب مولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) لم يكن من عادتنا أن تمضي المناسبة من دون إحياءٍ لها، فطلبتُ من الحضور التوجّه نحو القبلة لكي نزور سيدي ومولاي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وكان ذلك في وقتٍ متأخّر من الليل وبعد هدوء صخب التحقيق الذي كان يبقى الى بعد منتصف الليل، وبعد إتمامي للزيارة بدأتُ أقرأ القصائد الولائية بخصوص المناسبة العزيزة, والأخوة يردّدون معي مستهلّ القصيدة، ولا أعرف كيف ذاع خبرنا ووصل الى أسماع الحرس فجاءوا على الفور وبعد استفسارهم عن مصدر هذه الأصوات والضغط علينا وتهديدنا قلتُ لهم أنا مَن كان يردّد القصائد بحبّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام.)

أخرجوني وأوسعوني ضرباً على وجهي وعيني وأنفي ثمّ وضعوني في التابوت الأحمر (وهو عبارة عن محجر لا يتجاوز مساحته المتر الواحد وكانت جدرانه مطليّة باللون الأحمر، وفيه إضاءة حمراء قوية وفيه ثقب صغير لا يسع إلا صحن الأكل)، وبقيتُ فيه أربعين يوماً لا أستطيع أن أمدّ رجليّ أو أن أجلس جلسة عادية، فضقتُ ضرعاً وأحسستُ بضيق في صدري وتمنّيتُ الموت على البقاء في هذا المكان ساعة واحدة.

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك