يوسف رشيد حسين الزهيري
ان القضايا التاريخية الكبرى قضايا ذات شأن عظيم لايقوم بها الا رجال كبار اختارهم الله سبحانه وتعالى واصطفاهم على خلقه للقيام بدورهم ورسالتهم الإنسانية المكلفين بها. صاغتهم أيدي العمالقة المتجسدة في الأنبياء والعظماء .ولعل واقعة كربلاء والتي تعتبر الفاجعة العظيمة التي جعلها الله بصمة مؤثرة بكل وقائعها وماثرها ودروسها في نفوس المسلمين حتى اصبحت منهجا وطريقا وثورة قائمة الى يوم الدين . تحتل الصدارة في قائمة القضايا الكبرى , بل هي من أعظم الأحداث التي هزت الضمير البشري والوجدان الإنساني وكان لها أعظم الأثر في تحطيم الطاغوت وإعادة الحياة الي الاسلام الذي كادت ان تقضى عليه قوى الشر وفراعنة الزمن.
وقد عرف أهل البيت حدث كربلاء قبل وقوعه , عرفوه من مصدر الوحي من النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، لقد أنبأهم عند ولادة الحسين (عليه السلام) أن هناك فاجعة ستهز الضمير الإنساني ويذهب ضحيتها هذا العظيم شهيدا في سبيل الإسلام
لقد وصلت أنباء الفاجعة إلي مسامع الإمام علي (عليه السلام ) وعرف ان هذه المعركة المصيرية تحتاج الي أبطال وقادة يمتلكون الشجاعة والصبر والاقدام , فأخذ يعد العدة ويهيئ الرجال المقربين والمخلصين من حوله .و أن هذه المعركة تتطلب نماذج من أعلى المستويات لقيادتها .
إن عليا ( عليه السلام ) يدرك قيمة الاهل واثرهم في نجابة الأولاد , يدرك ان الاهل اذا كانوا جبناء قد يتسرب الجبن إلي أولادهم بينما إذا كانوا يتمتعون بشجاعة وقلوب قوية يسري ذلك في أعقابهم
فإن الوراثة قد أشار اليها الإسلام وقد قال النبى صلى الله عليه واله وسلم ( انظر في أي شئ تضع ولدك فإن العرق دساس )
وعلي ( عليه السلام ) نفسه يقول ( حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق )
إن عليا (عليه السلام ) كان مدركا لحجم الخطر القادم على الإسلام وحجم الواقعة الاليمة التي ستحدث وقد كان يعيش واقعة كربلاء ويجسدها أمام ناظريه ويرى أن ولده الحسين ( عليه السلام ) بحاجة إلي نصير وظهير ومن احق بنصره من فارس ينحدر من شجعان العرب قوة ومن الاسلام ثقافة وعلي مدرسة , ان جميع الجوانب البطولية تكتمل عند هذا البطل المرتقب
أراد أن يختار امرأة من بيت عربي ومن فرسان العرب وشجعانهم وأبطال من بيت عرفوا بالفروسية والبطولة كي يتزوجها فتلد له اولادا يكونوا سندا وظهيرا لمواجهة المرحلة القادمة الخطيرة . ويكونوا سندا وعونا للإمام الحسن والحسين ع في قضيتهم المصيرية .
"جاء زواج الامام علي (ع) من السيدة الجليلة أم البنين، بتوصية من نسابة العرب في حينه، أخيه عقيل بن أبي طالب، بعد أن طلب منه الامام علي (ع) أن ينظر له في "إمرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً"، فأولدت له أربعة فرسان، على رأسهم العباس(ع)الذي شارك أباه في معركة صفين وهو في مقتبل العمر، وحمل راية أخيه الامام الحسين (ع) في معركة الطف وهو في العقد الخامس من عمره، ومن هنا جاءت كنية امه بأم البنين
ولد العباس (عليه السلام) وتربى في مدرسة علي ( عليه السلام) والده لقد عاش تحت ظل الإمام أربعة عشر سنة تكامل خلالها من جميع جوانبه المعنوية والثقافية والبطولية , فإن في هذا السن تتكامل نفسية الطفل وتأخذ موضعها الطبيعي الذي يحدد وجهتها الصالحة او الطالحة
إن العباس قد تربى علي أيدي والده الامام علي عليه السلام وقد سقاه الإمام البطولة جرعة جرعة والاسلام حكما حكما فجاء كما أراد الله وكا أحب والده مسلما نافذ البصيرة صلب الإيمان فارسا شجاعا
إن عليا (عليه السلام) قد أعد وله ليوم كربلاء وهاهي كربلاء قد وافته مع اكمال الرابعة والثلاثين من عمره, فارتحل مع الحسين سائرا
مع اخوة ثلاثه له من أمه وأبيه ارتحل معهم يطلب الشهادة ويبتغي لقد هاجر مع اخيه وهو يمتلك البصيرة الواعية لكل تحركاته وأهدافه وهو على علم بثورة الحق التي يجسدها الحسين ويدافع عنها هو وأهل بيته وأصحابه , فلذا هاجروا ولم تكن هجرته من أجل الحسين (عليه السلام) النسبي بل كان من أجل الحسين (عليه السلام) العقيدة والمبدأ والدين كان من أجل الأهداف والغايات التى ثار الحسين (عليه السلام) في سبيلها وقد عبر عن ذلك في أكثر من موقف وصرح مرددا ومجهرا بهذه الأهداف .ففي معركة الطف قال لاخوته من أمه وأبيه عبد الله وعثما وجعفر وكانوا أصغر منه : تقدموا يا بنى أمى حتى أراكم نصحتم لله ورسوله.
انه تعبير يجهر بأن الحرب مع الحسين (عليه السلام) حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمقاتل صف الحسين (عليه السلام) مقاتل مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) , والنصحية في هذه الحرب نصيحة لله ورسوله إنها حرب مقدسة يقودها الحسين باعتباره يحمل رسالة رسول الله ويدافع عن دين الله .
لم يكن أبو الفضل العباس يتعصب لأخيه بما أنه قريبه النسبي كيف وقد وعي العباس موقف الإسلام من العصبية البغيضة التى كانت سائدة في الجاهلية فقضى عليها الإسلام لقد كان العباس على علم بما بثه إليه والده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال صلى الله عليه واله وسلم ( من كان في قلبة حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية )
إن هذه العصبية قد مقتها الإسلام وحاربها وجعل رابطة العقيدة والرسالة هي المنطلق الذي يجب ان يتحرك عنه الانسان وان أبا الفضل العباس على علم بذلك بل عاش الإسلام في لحمه وتحرك مع دمه وآثره على كل رغد العيش ودوام الحياة , انه يفقه أحكام الإسلام حكما حكما ويعى مداركه مدركا مدرشا ويعيش في سلوكاه وتصرفاته فلذا يندفع مع اخيه في سبيل الله والعقيدة دون آصرة النسب والحسب الذي يتخذه بعض الناس مبررا لكل أعمالهم القبيحة وتصرفاتهم الشاذة والمنحرفة ,.
وإن أبا الفضل العباس عليه السلام قد مثل صفوة الشهداء في كربلاء فلم يمشِ وراء عاطفة ولم يتحرك عن لحمة النسب والحسب وانما تحرك في سبيل الدين ولذا كان اخر منطقه فداء للإسلام ودفاعا عنه أقدم نفسي
إنه وقف بعد ان قطعت يمينه وأخذ اللواء بشماله وقف ليقول لتلك الجموع الضالة .
(والله إن قطعتم يمينى إني أحامي أبدا عن ديني )
انه الدين الذي يحرك الاشراف ويحرك سائر الناس في مجتمعنا الاسلامي .
والموقف الاستبسالي والدروس العظيمة في الحمية الإسلامية عبارة عن تقييم حي تبرز فيها أهداف العباس كما وأنها تبرز منزلته التي لايمكن ان ينالها لو لم يسلك هذا الطريق العظيم طريق الشهادة
أن أبا الفضل مضى مع أخيه على بصيرة من أمره ومعرفة بتحركه متبعا في حركته الأنبياء والمرسلين الذين خرجوا على أقوامهم بأحكام الله فقضوا على الفاسد والظلم وأسسوا حكومة العدل والإيمان
إن موقف أبي الفضل من أروع الدروس وأجلها واشرفها
ففيه درس في نبذ العصبية النسبية التى تحكم في المجتمعات والتجمعات بل يجب أن يكون التعصب للدين ويجب أن يكون الدفاع عنه واجب شرعي واخلاقي نابع من صميم العقيدة
وفية درس أن الأبطال والفرسان وليدة الفرسان والشجعان وان لقانون الوراثة اثره في تسرب الشجاعة والجبن الى نفوس الأبناء
ودرس في اعلى قيم ومفردات الشهادة في سبيل الله
قال الله تعال :
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا }
فكان نعم الفارس الماض في طريق الحق والفضيلة والشهادة .
من المواقف الشجاعة لأبي الفضل العباس : ثباته ورفضه لأمان الأمويين ووقوفه الى جانب اخيه صلة ورابطة ودم ودين وعقيدة
وهذا ما تكرر مرتين، ففي المرة الأولى أرسل ابن زياد أماناً للعباس وأخوته بسبب توسط أحد أخوالهم ، إلاَّ أن العباس عليه السلام أجاب عن ذلك بقوله : « أبلغ خالنا السلام وقل له أن لا حاجة لنا في الأمان ، أمان الله خير من أمان ابن سمية »، والمرة الثانية كانت في اليوم العاشر عندما نادى الشمر لعنة الله عليه ( أين بنو أختنا ، أين العباس وأخوته؟) إلاَّ أنهم أعرضوا عنه، فقال الإمام الحسين عليه السلام《 أجيبوه ولو كان فاسقاً ، فأجابوه وقالوا : ما شأنك وما تريد ؟ قال : يا بني أختي أنتم امنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد، فقال العباس عليه السلام : « لعنك الله أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء » .
إن ذلك الموقف المشرف من العباس عليه السلام حري بالمؤمنين الملتزمين المجاهدين أن يكون لهم درساً بليغاً عندما يكونون في ساحات القتال ضد الأعداء وتعرض عليهم أمثال ذلك النوع من الأمان الكاذب من القتل ، لأن الاستجابة لمثل تلك النداءات الخبيثة هي الخسارة الكبرى في الدنيا والآخرة ، وكيف يمكن للعباس وهو شبل أمير المؤمنين عليه السلام أن يقبل لنفسه بوصمة العار الأبدية في الدنيا والآخرة .
استشهاد أبي الفضل العباس (عليه السلام)
عندها تقدم ابو الفضل نحو الحسين وقد خنقته العبرة ، قال : والآن يا ابن رسول الله أما لي من رخصة ..؟
قال : اخي اخي عباس أنت حامل لوائي فمن لي بعدك قال : أخي اذا كان لا بد اذهب واطلب لهؤلاء الاطفال ماء ، فحمل على القوم قائلا :
(انا الذي اعرف عند الزمجرة *** بابن علي المسمى حيدرة
انا الذي اعرف عند الزمجرة *** بابن علي المسمى حيدرة )
حتى كشفهم عن الماء ، ما ان وصل الى الماء ، ملئ القربة ولكن من شدة عطشه غرف غرفة من الماء ليشرب فتذكر عطش الحسين فرمى الماء وقال :
(يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت او تكوني
هذا حسين وارد المنون *** وتشربين بارد المعين
تالله ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادي اليقين )
ثم ملأ القربه وتوجه نحو المخيم فأخدوا عليه نفر كبير من جيش معاوية الطريق واحاطوا به من كل جانب فجعل يضرب فيهم وهو يقول:
(اني انا العباس اغدوا بالسقا *** ولا اخاف الشر يوم الملتقى )
(ثم حمل نحو القوم ، فصاح عمر بن سعد :
ويلكم حولوا بينه وبين ايصال الماء الى المخيم فلئن وصل الماء الى الحسين لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم .)
فحمل عليهم العباس وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ففرقهم وكمن له زيد بن الرقاد الجهني من وراء نخلة وعاونه حكيم بن طفيل ولما مر به ضربه على يمينه فقطعها فأخد العباس السيف بشماله وحمل عليهم وهو يزجر ويقول :
والله ان قطعتم يميني *** اني احامي ابدا عن ديني
وعن امام صادق اليقين *** سبط النبي الطاهر الامين
فكمن له حكيم بن الطفيل من وراء نخلة اخرى وضربه على شماله فقطعها فضم اللواء الي صدره واخد يرتجز ويقول :
قد قطعوا ببغيهم يساري *** فاصلهم يا رب حر النار
يا نفس لا تخشي من الكفار *** وابشري برحمة الجبار
مع النبي السيد المختار
فبينما هو كذلك واذ بالسهام نزلت عليه مثل المطر ، فوقع سهم في نحره ، وسهم في صدره وأصاب سهم عينه اليمنى فطفاها ، وسهم أصاب القربة فأريق ماؤها ، فجاؤا بعمد الحديد ، وضربوه على ام رأسه فهوى على الارض مناديا : أخي يا حسين ادركني فوصل اليه وجلس عنده فوجده مطبوخ الجبين : أخي ابا الفضل ، الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي الآن شمت بي عدوي ،
عظم الله لكم الأجر في ساقي عطاشى كربلاء وقطيع الكفين والسلام على الأرواح التي حلت بفناء ابي عبد الله الحسين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
زيارة أبي الفضل العباس (عليه السلام)
(السلام عليك أيها العبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين (صلى الله عليهم وسلم)، السلام عليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه وعلى روحك وبدنك. أشهد وأُشهد الله أنك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبائه. فجزاك الله أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء، وأوفى جزاء أحد ممن وفى ببيعته واستجاب له دعوته وأطاع ولاة أمره. أشهد أنك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود، فبعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً وأفضلها غرفاً، ورفع ذكرك في علّيين، وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. أشهد أنك لم تهن ولم تنكل، وأنك مضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيّين، فجمع الله بيننا وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين فإنه أرحم الراحمين).