(القسم الاول)
يهتم الغربيون جدا بالدراسات الانتروبولوجية ، التي تعتمد اساسا على دراسة ظواهر انسانية اجتماعية او اقتصادية لبلوغ علتها لان هناك قاعدة منطقية تربط بين العلل وظواهرها. فتكرر الحالة يعني وجود ظاهرة ، وتكرر الظاهرة يعني وجود علة. ونحن دوما نستدعي الظواهر بعللها او نستبعد الظواهر باستبعاد علتها. فهم يفتشون عن سبب علمي لتفتيت الدول القائمة لإضعافها وليسهل السيطرة علها
ولذا ومن اجل ان ينعم الغرب بالاتحاد في الاتحاد الاوربي(European Union) على اساس اقتصادي، او ينعم في حلف الناتو (NATO) على أساس أيديولوجي ؛ لابد أن تتحول بلداننا وتتقطع الى دويلات متناحرة لكي يتركوا لنا محض الصراع وغياهب الفتن ،ولهم القوة والآمان والرفاه.
من اجل هذا الهدف الاستراتجي للغرب الاستعماري الخبيث توجه صوموئيل هنتنغتون، وفرنسيس فوكوياما وعشرات غيرهما للتثقيف الانتروبولوجي، على مستوى العولمة الى تلك الغاية في كتابة صراع الحضارات ، ونهاية التاريخ.
وبدون أي تأطير نظري أو إشكالي يبدأ "هونتينغتون" كتابه الشهير هذا"صدام الحضارات" بسرد مجموعة من الوقائع, تصادر القارئ ولا تترك له مجالا لأي تأويل أو تشكيك, فيما يسرد. فهو يختار حالات ويجعل منها ظواهر ويصدر بعد ذلك احكامه التي يتلقفها المستلبون في كل العالم وما اكثرهم في بلداننا، وكأنه كتاب منزلّ !!!
يقع الفصل الأول تحت عنوان "العهد الجديد للسياسة العامة" يصحبه عنوان فرعي “ومثير "الرايات والهوية الثقافية", ويبدأ بالوقوف عند الأحداث التالية التي تشير الى تلازم العلم المرفوع في ابراز الهوية(ظاهرة ارتباط الراية المرفوعة بالهوية والثقافة)، لكي يكون بعدها تحت كل علم دويلة:
1-" يوم 3 يناير 1992: اجتمع بموسكو أساتذة جامعيون روس وأمريكان , في إحدى قاعات المحاضرات ببناية حكومية. وكان الاتحاد السوفيتي قد انهار أسبوعين قبل ذلك , وأصبحت روسيا الفيدرالية بلدا مستقلا. ونتيجة لذلك تمت إزاحة تمثال لينين من أمام تلك البناية , وبدأ علم الفيدرالية الروسية يرفرف مكانه. وقد كانت هناك مشكلة صغيرة - كما أشار إلى ذلك أحد الملاحظين الأمريكان- تتمثل في كون العلم كان مقلوبا. وفي أول استراحة , هرع المنظمون الروس إلى إصلاح الخطأ ".
2-بعد ذلك ينتقل الكاتب إلى سرد الواقعة الثانية:
"يوم 18 أبريل :1984 تظاهر حوالي 2000 شخص في سراييفو رافعين ليس أعلام الأمم المتحدة أو الحلف الأطلسي , بل أعلام العربية السعودية وتركيا".
3-وتأتي الواقعة الثالثة:
"يوم 16 أكتوبر 1994 تظاهر في لوس أنجلوس حوالي 70000 شخص, وسط " بحر من الأعلام المكسيكية". وذلك من أجل الاحتجاج ضد المقترح رقم 187, والذي كان سيعرض على الاستفتاء. وبموجب هذا الأخير سيحرم المهاجرون السريون وأبناؤهم من المعونات التي تقدمها الدولة".
من هذه الوقائع يتنقل الكاتب إلى إصدار الأحكام التالية:
اولا- في عالم ما بعد الحرب الباردة, أصبحت الأعلام أساسية كما هو الشأن بالنسبة لرموز الهوية الثقافية الأخرى مثل الصليب والهلال بل حتى القبعة, لأن الثقافة حاسمة والهوية الثقافية هي الأهم عند معظم الناس...طبعا اوربا واتحادها والغرب والناتو خارج هذا الاستنتاج.
وفي مسعى لتأكيد التشرذم والسعي للصراع ؛ يقول: (يتم اكتشاف هويات جديدة , وتتم إعادة اكتشاف هويات قديمة. وسواء كانت قديمة أو جديدة , فان التظاهر ورفع الأعلام يؤدي إلى الدخول في الحرب ضد أعداء قدامى ولكن أيضا ضد أعداء جدد في غالب الأحيان) . لاحظ مقدار الخبث في هذا الاستنتاج وهذا التثقيف له.
ثانيا- وفي كتاب المجند الانتروبولوجي الاخر ( فرانسيس فوكوياما ) أيضا في مقدمة كتابه ( نهاية التاريخ والإنسان الأخير) يقول : (عندما نلاحظ مجرى الأحداث في السنوات العشر الأخيرة [يقصد عقد الثمانيات وبالضبط سقوط الاتحاد السوفيتي] فمن الصعب أن نتلافى الانطباع بأن شيئا ما أساسي قد جرى في تاريخ العالم. خلال العشر سنوات الأخيرة شهدنا تغيرات بارزة في المناخ الفكري لأكبر بلدين شيوعيين في العالم ، كما شهدنا بداية حركات (إصلاحية) مهمة في هذا البلد أو ذاك.
من هذه (المشاهد) التي هي مجرد (انطباع) شخصي لفوكوياما ؛ يخلص فوكوياما إلى إصدار الأحكام الضخمة التالية:
1-(قد يكون الذي أنشا هذه المشاهد ليس فقط نهاية الحرب الباردة أو نهاية حقيقية خاصة بعد الحرب, بل نهاية للتاريخ بالذات: نهاية التطور الأيديولوجي للبشرية كلها, وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للسلطة على البشرية جمعاء.. وللعلم فالدين في حساب فوكوياما من التاريخ!!
2-هذا لا يعني أنه لن تقع أحداث من شأنها أن تملأ صفحات المجلات المتخصصة في العلاقات الدولية, لأن انتصار الليبرالية جرى أولا في مجال الأفكار والوعي, وهو ما يزال غير مكتمل في العالم الواقعي. ولكن توجد أسباب قوية تدفعنا للاعتقاد أن هذا المثال هو الذي سيحكم العالم الواقعي لفترة طويلة ).
وهنا نحن نتساءل: ما الذي يبرر مثل هذه الأحكام ؟ كيف تم الانتقال من الواقعة او الظاهرة ( المشهد) إلى الفكرة ؟ ولماذا يتم التعامي عن ظواهر انسانية تاريخية كبرى مثل ظاهرة ارسال الرسل عليهم السلام ؟ وظاهرة استغلال الانسان لأخيه الإنسان وظاهرة الاستكبار ؟ وظاهرة الترف التي تبني الراسمالية على استغلال الانسان، وظاهرة الاسنلاب التي تعاني منها الانسانية وتغذيها الذرائع!!!!
ان هذا التيه عن قواعد العقل وضوابط صحة الحكم العقلي ، والانتقال من نمط تعلمي الى نمط اخر كما يجري في تنظير فوكوياما وهنتنغتون هي من عيوب هذه الافكار وخطلها.
وقد وقعت في تاريخ الانسانية الفكري انزلاقات عديدة أثناء عملية الانتقال هذه, مما حدى بالعقل ذاته إلى اتخاذ احتياطات ووضع قيود منهجية لضبط العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع في علم المنطق.
لقد بدأ هذا الانتباه منذ أرسطو على الأقل, لأن هذا الأخير هو الذي أنشأ قواعد المنطق التي "تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ". وتم تجديد القواعد المنهجية مع بداية العصور الحديثة, وبخاصة مع بيكون وديكارت وغيرهما.
وهو ما لم يلتزم به رواد نهاية التاريخ وصدام الحضارات من اجل اهداف خبيثة. ولكن من أجل التنظير للواقع يلزم احترام القواعد التي أفرزها العقل البشري بعد جهد مرير, وبعد تجارب ومحاولات شهدت مجموعة من الإخفاقات والإحباطات تلتها تدقيقات واحترازات. هذا إذا كان الأمر يتعلق بالواقع المعايش, فما بالك إذا كان "الواقع" الذي نتحدث عنه هو المستقبل؟ ! في هذه الحالة لابد من مواجهة السؤال التالي: ما هي الضمانات التي تسند التفسير؟ ما الدليل على صحة الرؤية المقدمة بخصوص تصور معين للمستقبل؟ إذ عندما يتعلق الأمر بالمستقبل, فنحن ندخل عالم التوقعات والتنبؤات !
ولابد من التوجه الى الظواهر الحقيقية التي تنشا عن نشاطات انسانية فعليه وبدهيهة تنتج عن استطالة السنن الكونية في الموجودات.
فلابد ان ننتبه الى انه من اليسير في السفسطة؛ جمع بعض الوقائع وإدراجها ضمن سلسلة منطقية من الأفكار, من أجل استخلاص نتائج معينة. ومن اليسير أيضا جمع نفس الوقائع حسب سلسلة مباينة, بغية الوصول إلى خلاصات مغايرة.
إن المشكلة لا تكمن في الشواهد, بل تكمن طريقة اختيار الظاهرة وفي طريقة تفسيرها. وإذا أريد للتفسير أن يكون علميا , يلزم أن ينتقل انتقالا منطقيا من نمط فكري الى اخر من التسليم لمعرفة المعاني الى التعليل لمعرفة العلل والأسباب ومنه الى التصديق ، لتقرير الحقائق ، فالتفاضل لتحديد المعايير والاصطلاح عليها ثم التعميم لصياغة القوانين الاجتماعية ، فالتكامل لبناء الحتميات والسنن. هذا هو التسلسل المنطقي المعروف في البناء العلمي للمعرفة.
اما ان نلاحظ الوقائع ونعتبرها بمثابة أسباب لظواهر أخرى ، فهو تخبط وتيه, يأتي في خضم المغالطات والسفسطة .
والذي جاء بهذا التيه وحتّمه هو ان هناك استراتجية في سياسة الدول الغربية لتفتيت دول العالم الثالث سخرت لها عشرات المعاهد تحت يافطات علمية وخبراء معروفين وعشرات الاقلام المأجورة متلبسة العلمية والعلم .