بعد انتهاء واقعة الطفّ الفجيعة باستشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) وأهل بيته وأصحابه في يوم عاشوراء الدامي من شهر محرّم الحرام لسنة 61 هـ، بدأت إمامة الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين السجاد (عليهما السّلام)، وامتدّت الى سنة 95 هـ، أي دامت أربعٌ وثلاثون سنة كان الإمام فيها شديد النشاط في لملمة الوضع وترتيب أمور المسلمين، وبالخصوص شيعته وأتباعه ومحبّيه وهم كثيرون جدّاً، لأنّ الإمام (عليه السّلام) بحنكته ودرايته استطاع جذب المسلمين نحوه بشكل واضح، ليؤسّس جامعة يُدرّس فيها علوم أهل البيت الأطهار (عليهم السّلام)، ويبثّ العلماء الى كلّ أنحاء المعمورة، وخير شاهدٍ على ذلك واقعة انفراج المسلمين عند تقدمه لاستلام الحجر الأسود الى سماطيْن، بينما عجز الوالي الأموي بجيشه وبطشه عن تحقيق ذلك.
ولكنّ السلطة الأمويّة أدركت خطورة ما يديره الإمام السجّاد (عليه السّلام) من شبكة علمائيّة واسعة النطاق، بل تصل أذرعها الى غير البلاد الإسلاميّة، حتى نقل المؤرّخون عن الحاكم الأمويّ الوليد بن عبدالملك قوله: (لا راحة لي، وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا)[1] وراح يخطّط لاغتياله، فدسّ له السمّ بيد واليه على المدينة سليمان بن عبد الملك خفية، فكان له ما أراد.
ثمّ بدأت مرحلة جديدة تختلف كثيراً عن سابقتها، فقد ضيّقت السلطة الأمويّة الخناق على الإمام محمد بن عليّ الباقر (عليهما السّلام) وراحت تتّبع شيعته في كلّ حدب وصوب، وعادت الحال تشبه أيام معاوية بن سفيان وبطشه وفتكه بشيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، وخير دليل على ذلك ما توحيه الحوارات التي جرت بين الإمام الباقر (عليه السّلام) وشيعته.
فقد روي عن أبي بصير، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): جُعلت فداك، اسم سمّينا به استحلّت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا. قال: وما هو؟ قال: الرافضة. فقال أبو جعفر (عليه السلام): «إنّ سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون فأتوا موسى فلم يكن في قوم موسى أحد أشدّ اجتهاداً وأشدّ حبّاً لهارون منهم، فسمّاهم قوم موسى الرافضة، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإنّي نحلتهم، وذلك اسم قد نَحَلَكُمُوهُ الله»[2]
ونجده (عليه السّلام) تارة أخرى يصف ما مرّت به الشيعة في تلك الفترة بقوله: «وقُتلت شيعتُنا بكلّ بلدة، وقُطّعت الأيدي والأرجل على الظِنّة، وكان من يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجِن أو نُهب مالُهُ، أو هُدّمت داره»[3]، وحينما يسأله أحد أصحابه: كيف أصبحتَ يا ابن رسول الله؟ فيجيبه: «أصبحتُ برسول الله (صلى الله عليه وآله) خائفاً، وأصبح الناس كلّهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) آمنين»[4]
ورغم كلّ هذه الآلام والمصاعب كان الإمام الباقر (عليه السّلام) يتفقد شيعته ويسأل عنهم ويحنو ويشفق عليهم، ويقضي حوائجهم، ويطيّب خواطرهم، ويخفف آلامهم ويزرع الأمل في قلوبهم.
وحينما رأت السلطات الأمويّة أنّها عاجزة كلّ العجز من أن تحدّ من نشاط الإمام الباقر (عليه السّلام) وتحرّكاته في نشر المفاهيم الإسلاميّة المحمديّة الأصيلة قرّرت اغتياله، فدسّ الحاكم الأمويّ هشام بن عبدالملك السمّ إليه عن طريق واليه في المدينة المنوّرة (ابراهيم بن الوليد بن عبدالملك) فرحل (عليه السّلام) إلى رَبِّه الأعلى في السابع من ذي الحجة، عام 114 هـ صابراً، محتسباً، شهيداً، فَسَلامٌ عليه يوم وُلِدَ، ويوم رَحَلَ إلى ربِّه، ويوم يُبعَثُ حَيّاً.
ومن وصاياه الجليلة حينما التقاه (عمر بن عبدالعزيز) الحاكم الأمويّ المعتدل، فقال له: أوصني يا ابن رسول الله. فقال (عليه السّلام): «أوصيك أن تتخذ صغير المسلمين ولداً، وأوسطهم أخاً، وكبيرهم أباً، فارحم ولدك، وصِلْ أخاك، وبِرَّ أباك، وإذا صنعت معروفاً فربِّهِ» (أي أدمه حتى يستمر) .