كان القرآن الكريم ولا زال واحدا من أهم النصوص الدينية التي أحدثت تحولا كبيرا في نمط الحياة وفي وعي البشر وفي طريقة فهمهم وتفسيرهم للوجود وللإنسان وللإله الخالق المفارق، ونظرا لأهمية هذا الكتاب السماوي المقدس (القرآن) فقد عكف المسلمون الأوائل على تفسيره وشرح الغوامض من كلماته ومفرداته وتراكيبه، وبتطور الحياة أصبحت الحاجة إلى نقله للغات أخرى دخل أصحابها الاسلام حاجة ملحة وضرورية إلى نقله عن طريق الترجمة الى لغات الامم الأخرى القريبة من ارض العرب كالفارسية والرومية والهندية والحبشية وغير ذلك.
وتنقل لنا الوثائق والنصوص التاريخية أن أول ترجمة لآيات القرآن الكريم ومعانيه الى اللغات الأخرى ـ غير العربية ـ صيغت إلى الفارسية بعد أن أخذت من لسان الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) بصورة مباشرة، بناء على طلب من بعض المسلمين الفرس الذين لا يتقنون العربية وبمبادرة من الصحابي (سلمان المحمدي) الذي أسهم في هذه الترجمة، وكانت سورة (الفاتحة) المباركة اول سورة تُنقل الى لغة أخرى بعلم النبي الأكرم وبموافقته.
وقد توالت الترجمات الأخرى للفارسية بإشراف الصحابي الجليل سلمان الفارسي، وتوسّعت في عصر ما بعد الرسول الاكرم، كما تمت ترجمة القرآن الكريم في عام 127 هجري الى اللغة البربرية، وفي العام 270هجري ترجم الي اللغة السندية، ولكن لم تبق أية من هذه التراجم التي ضاعت بسبب الظروف المختلفة التي أحاطت بالواقع الثقافي الإسلامي آنذاك.
وفي أوربا، فمن المعلوم أن القرآن وصل إليها عن طريق بلاد الأندلس التي كانت في العصور الغابرة تدين بالإسلام وتتّخذ من العربية لسانا لثقافتها وآدابها وتخاطباتها الرسميّة وغير الرسميّة بعد أن دخل الإسلام هذه الأصقاع، وقد ترجم القرآن إلى لغات أوربية مختلفة وبالتتابع، لكن الهدف من هذه الترجمة كان مختلفا عن الأهداف التي دعت الفرس والهنود والأحباش يُقبلون على ترجمة القرآن التي كانت حاجة ماسة للاطلاع على تعاليم الدين الجديد -آنذاك- وللإحاطة بأهدافه وغاياته من أجل إشباع حاجة روحيّة كانت تدفع بالمسلمين من غير العرب للنهل من هذا المعين الذي يجهلونه بسبب جهلهم للغته التي نزل بها.
ومن الجدير بالقول أن الموقف الغربي من الإسلام والقرآن كان يرتكز في أغلب الأحيان على ما يقدمه الاستشراق، حيث تحت غطاء الدراسة الأكاديمية والبحث العلمي كان المستشرقون ينفثون سمومهم و يختلقون وقائع مكذوبة عن الشرق المدروس، وعن دينه الإسلامي بالطبع هو قطب الرحى في هذا الشرق المستهدف والمقصود، ولهذا كان وصف المختصون بالاستشراق دقيقا حين قال بأنه نشاط فكري استجاب في معظم الأحوال (للثقافة التي أنتجته أكثر مما استجاب لموضوعه المزعوم).
الترجمات الأوربية للقرآن الكريم كان الغرض منها امتلاك القدرة على دحضه ورفضه وتشويهه ونعته ببعض الصفات التي تنزع عنه قدسيته
أمّا الهدف من الترجمات الأوربية فقد اختلف هنا؛ فكان دافعه الأول هو اطلاع رجال الدين المسيح على محتويات القرآن الكريم، لا من أجل معرفته والإحاطة بكنوزه الروحية والتشريعية، وإنما لغرض امتلاك القدرة على دحضه ورفضه وتشويهه ونعته ببعض الصفات التي تنزع عنه قدسيته، وتُبطل فكرةَ كونه كتابا منزلا من لدن حكيم خبير، وما محمد إلا مبلغ ينقله للناس دون زيادة أو نقصان، وهذه القدرة لا يمكن أن تتم لرهبان أوربا المسيحية؛ ما لم يقفوا على دقائق القرآن وتفحّص معانيه وألفاظه ومناسبات نزول آياته، وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالقرآن.
وفي أوربا تحدّثنا المصادر التاريخية أيضا، أن أول ترجمة للقرآن قد تمت حوالي سنة 1143م إلى اللغة اللاتينية، وهي الترجمة التي سعى رهبان أوربا -آنذاك- إلى توظيفها للطعن المستمر في الإسلام، وقد أُرسلت هذه الترجمة التي نُفّذت بإشراف أساتذة متخصصين باللغات الشرقية وأديانها المختلفة بعد إنجازها إلى رئيس أحد الأديرة المسيحية وهو دير (كلوني العام) وقد وضعها الراهب (برندوس) تحت تصرف رجال الكنيسة ليستفيدوا منها في استكمال دراساتهم اللاهوتية وللقيام بأعمال التبشير المنظّم الذي لا يمكن أن يتم بشكل صحيح ما لم يتم الوقوف على الأفكار الدينية الأخرى التي تنافس المسيحية في أفريقيا وآسيا ودول البلقان، وعلى رأسها أفكار الإسلام، وكان ظهور الترجمة المذكورة بعد الحملة الصليبية الثانية على البلاد الإسلامية بأربع سنوات تقريبا، وإنّ من دوافعها الخفيّة الفشلُ الذريع الذي منيت به هذه الحملة بالرغم من شراسة الحشود وكثرتها وقوتها، وبالرغم من تشرذم المسلمين آنذاك، وتشتت كلمتهم، لذا كانت محاولة الوقوف على أسرار الإسلام وخبايا القوة الروحية والنفسية التي يتمتع بها من يدينون بهذا الدين عاملا مهمّا من العوامل التي دفعت للاهتمام بكتابهم المقدس الذي يغذّي أفكارهم ومعتقداتهم وفلسفتهم التي تمنحهم هذه القوة الروحية وهذه الصلابة عند المجابهة مع الأعداء من ذوي الشراسة والشوكة القوية.
سويسرا تطبع أول نسخة محرفة للقرآن في القرن السادس عشر في اوربا وكانت الترجمة الوحيدة التي تهدف إلى الحط من قيمة الإسلام كدين سماوي مقدّس!
واللافت أن الترجمة الأولى للقرآن الكريم في أوربا ولّدت ترجمات أخر للغات أوربية مختلفة، فبعد أن ظلت النسخة الأم من الترجمة مخطوطة في مجموعة من النسخ المتداولة في الأديرة لمدة أربعة قرون تقريبا قام (تيودور بيلياندر) بطبعها في مدينة (بال السويسرية) سنة 1543م، وقد عرفت هذه الطبعة بكثرة التحريف والتجني على الإسلام وامتازت بالبعد عن الموضوعية والنزاهة، لأنها طبعة اعتمدت - في الأصل - ترجمة وحيدة تهدف إلى الحط من قيمة الإسلام كدين سماوي مقدّس!
وقد توالت ترجمات أخرى إلى لغات أوربية أخرى بعد هذه الطبعة حيث ظهرت أول ترجمة للقرآن الكريم بالفرنسية سنة 1647م، على يدِّ (أندريه دي ريور) التي أخذت صدى واسعا في المحافل الثقافية الفرنسية، وأعيدت طباعتها أكثر من مرة بعد ظهورها الأول، لكنها ظلت ترجمة لا تمثل حقيقة ما موجود من أفكار وعقائد في القرآن الكريم بقدر ما تمثّل دافعا لمعرفة أفكار الأتراك (الدولة العثمانية) التي تدين بالإسلام وتبسط نفوذها على مناطق شاسعة بما فيها أوربا ذاتها في تلك القرون الخوالي. وقد نتج عن ترجمة أندريه الفرنسي أول ترجمة للقرآن إلى اللغة الإنجليزية بوساطة العالم اللغوي (ألكسندر روس) وكانت معدّة تلبية لطلب الأب (ليبيير) كما نتجت عنها ترجمات أخرى إلى الهولندية والألمانية والروسية، وسوى ذلك من لغات أخرى.
ومع بدايات القرن التاسع عشر ابتدأ الغزو الاستعماري الأوربي للعالم الاسلامي، وبرزت معه النزعة الاستعلائية العنصرية وبلغت عنْجَهِية بعض المستشرقين الغربيين مثل الإنجليزي (ماكولي) حد الذهاب الى (أن رفاً واحداً من مكتبة أوروبية جيّدة يعادل كل التراث الوطني للهند والجزيرة العربية)، وتكررت هذه العقلية المستعلية والناكرة لفضل الغير فيما ذهب إليه المستشرق الفرنسي المشهور (شارل بـيلا) حيث يقول: \أن العرب لا يستحقون لغتهم\.
ولعلّ أقرب الترجمات القرآنية إلى روح الحقيقة وإلى كينونة القرآن بوصفه كتابا سماويا هاديا هي الترجمات التي ظهرت في العصور الحديثة والتي اضطلع بمهمّة القيام بها مجموعة متمرّسة من المستشرقين الذين عكفوا على دراسة العربية والوقوف على خصائصها التعبيريّة والبلاغيّة، وخبروا الفلسفة الإنسانيّة العظيمة التي ينطوي عليها الإسلام، وتعدّ ترجمات المستشرق (كزيمرسكي) سنة 1840م، وترجمة الفرنسي (إدوارد مونتيه) عام 1925م، ومواطنه المغرض (بلاشير) عام 1949م، فضلا عن الترجمات التي قام بها المسلمون العرب المجيدون لّلغات الأوربية من أصدق الترجمات ومن أكثرها إنصافا وموضوعية ونزاهة؛ لأنها تجرّدت تجرّدا علميا خالصا، وفقدت دوافعها العدائية القديمة، وهذا ما جعل الكثير من الأوربيين يغيّرون من تصوراتهم وقناعاتهم المتوارثة عن الإسلام وعن كتابه العظيم بالرغم من النعيق الإعلامي والتضليل الفكري الذي تمارسه مؤسسات ثقافية وعلمية كبيرة في أوربا حتى هذه اللحظة.