المعالَجات لظاهرة العنف وفق رؤية المرجعية الدينية العليا


 تحتل منظومة الأخلاق وأسس التعايش السلمي والاجتماعي أهمية قصوى في سلّم الأولويات التي سعت رسالات السماء لتعريفها لبني البشر، وتأتي رسالة الإسلام الخاتمة لهذه الرسالات مكمّلةً بما حملتهُ من تعريف بمكارم الأخلاق والصفات الحسَنة ومبادئ التعايش المجتمعي السليم.

وتعد هذه المنظومة جزءاً مهماً من رسالة المرجعية الدينية بوصفها الوريث الذي يحمل أمانة الرسالة الإسلامية، تحت أنظار بقية الله عجل الله فرجه الشريف، فضلاً عن احاطتها بعنايته وتسديده.

وقد سعت المرجعية الدينية العليا بكافة الوسائل المتاحة لتعريف المجتمع وتذكيره وبصورة دائمة بأنَّ خَلق الانسان لم يأتي من عبث انما لدورٍ يؤدّيه ورسالة يحمل تبعاتها في الدنيا قبل الآخرة، فإن كانت خيراً فإن لهُ الحسنى وإن كانت شراً فهو حاصدٌ لثمرها لا محالة.

لقد مرّت المجتمعات الإسلامية عموماً ومجتمعنا بشكل خاص في الحِقب الأخيرة بهزّات عنيفة من احتلال أجنبي ومشاريع عولمة هدفها تمييع الهوية الدينية، فضلاً عن الهجمات الفكرية التي تسعى الى تلويث المفاهيم الإنسانية النبيلة للفكر الاسلامي بنزعات التطرف والتشدد والإنحراف، ومساعي تجهيل المجتمع بأبسط مقومات الأخلاق والالتزام والصفات السويّة.

ومن هنا تصدّرت المرجعية الدينية العليا المشهد، حاملةً شعار التصدي لهذه التحديات قولاً وفعلاً، عبر تنوير المجتمع وتعريفه بمعاني مكارم الأخلاق، والتنبيه بالمخاطر الحقيقية التي أخذت تعصف بالواقع الاجتماعي، انطلاقاً من المكانة العزيزة للمرجعية العليا في عقول وأفئدة عموم الناس.

ظاهرة العنف

دأبت المرجعية الدينية العليا على منهج الاصلاح والتصدي للظواهر التي تهدد السلم المجتمعي، وهي مستمرة في هذا المسار برغم الظروف الصعبة والتعقيدات التي مر بها المجتمع العراقي خلال العقود الأخيرة.

وبعد سقوط النظام السابق وبدء عملية التغيير التي جرت في البلاد عام 2003م وما رافق هذه العملية من صعوبات وأخطاء، ظهرت الى السطح مفاهيم وظواهر مجتمعية سلبية أفرزتها ظروف عدم الاستقرار والاضطرابات الامنية وسوء استخدام السلطة والتدخلات الاجنبية والانفتاح غير المسبوق على العالم، لتطغى هذه الظواهر على تصرفات بعض شرائح المجتمع بما يضر المصلحة العامة ويخدش الضمير الانساني ويسيء الى منهج الاسلام المتسامح المتمثل بمنهج أهل البيت عليهم السلام.

وانطلاقاً من الشعور بالمسؤولية تجاه هذا الواقع المتأزم بادر ممثل المرجعية الدينية العليا وخطيب الجمعة في كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي الى تخصيص الخطبة الثانية، على مدى خمسة أسابيع لتعريف المجتمع وتحصينه من هذه المخاطر والظواهر السلبية مبتدءاً بظاهرة (العنف) الذي وصفهُ بأنه: السلوك العدواني الذي فيه تعدّي وظلم، وفيه تعامل بخشونة وقسوة مع الآخرين وأحياناً قد يتطور الى حالة نزاع وحرب.

وأوضح الكربلائي في الخطبة الثانية لصلاة الجمعة بتاريخ 29/ربيع الاول/1440هـ - 7 /12 /2018 بأن المتتبع للنصوص الشرعية من آيات قرآنية وأحاديث شريفة يجد أن العنف يمثل سلوكاً مذموماً في الشريعة الاسلامية، وأن الاصل الانساني في التعامل مع الآخرين هو اتباع أسلوب الرفق، والذي يظهر من هذه النصوص محبوبيته لدى الشارع الاسلامي، إلا ان ذلك لا يعني مذموميته على الاطلاق ففي موارد الدفاع عن الشريعة الاسلامية والارض والعرض والمقدسات وحماية النفس أو دفع الضرر أو استجلاب حق يصبح مشروعاً وفق الضوابط والمحددات الشرعية والاخلاقية والاجتماعية التي تسوّغ استعمال هذه الوسيلة..

شواهد من سير الأئمة (عليهم السلام)

يتضح هنا الفرق بين مذمومية استخدام العنف في التعامل مع الآخرين من اجل مصالح دنيوية ومواقف آنية، وبين اهمية استخدام العنف في الدفاع عن الحرمات والمقدسات، وقد وردت روايات كثيرة تحث على الرفق واللين والمداراة للآخرين والتعامل بالحسنى والعفو والصفح عن المسيء والمحادثة والمحاورة بالكلام الطيب، منها حديث النبي (صلى الله عليه وآله): من أُعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة.

وما جاء عن الأئمة الأطهار عليهم السلام من روايات وأحداث جرت عليهم، تجسد أهمية التسامح والعفو عن الإساءة والمحاورة بالكلم الطيب، وما ينتج عن ذلك من خير وطمأنينة لعموم المجتمع.

فهذا الإمام الصادق (عليه السلام) أتاه رجل وقال له: إنّ فلاناً ابن عمّك ذكرك فما ترك شيئاً من الوقيعة والشتيمة إلاّ قالهُ فيك! فقام (عليه السلام) وتوضّأ، فصلّى ركعتين، وقال: يا ربّ هو حقّي قد وهبته، وأنت أجود منّي، فهبه لي، ولا تؤاخذ بي ولا تقايسه.

وفي رواية أخرى، عن جرير بن مرازم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّي اُريد العمرة فأوصني.

فقال (عليه السلام): اتّق الله، ولا تعجل.

فخرجت من عنده من المدينة، فلقيني رجل شامي يريد مكّة فصحبني، وكان معي سفرة فأخرجتها وأخرج سفرته وجعلنا نأكل، فذكر أهل البصرة فشتمهم، ثمّ ذكر أهل الكوفة فشتمهم، ثمّ ذكر الصادق (عليه السلام) فوقع فيه.

فأردت أن أرفع يدي فأُهشّم أنفه، وأُحدّث نفسي بقتله أحياناً، فجعلت أتذكّر قول الصادق عليه السلام: «اتّق الله ولا تعجل» وأنا أسمع شتمه، فلم أعدُ ما أمرني، بمعنى لم أخالف ما أمرني به الإمام الصادق (عليه السلام) من التقوى وعدم التعجّل.

وهناك شواهد أخرى منها ما ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) الذي لاقى من احد الاشخاص أذى حيث كان يسبّ جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) بمسمع منه فقال له بعض أصحابه: دعنا نقتله، فنهاهم الإمام (عليه السلام) عن ذلك، وركب (عليه السلام) يوماً اليه فوجده في مزرعة فجالسهُ وباسطهُ وقال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ قال الرجل: مائة دينار، قال: وكم ترجو ان تصيب منه؟ قال: مائتي دينار، فأخرج الإمام (عليه السلام) له صرة فيها ثلاث مائة دينار فقال: هذا زرعك على حاله يرزقك الله فيه ما ترجو.

ثم ذهب هذا الرجل الى المسجد النبوي ثم بعد ذلك دخل الإمام (عليه السلام) وتغيرت معاملة هذا الرجل مع الإمام (عليه السلام)، وأخذ يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته، فبادر اليه أصحاب الإمام (عليه السلام) منكرين عليه هذا الانقلاب، فأخذ يخاصمهم، ويتلو عليهم مناقب الإمام ومآثره، ويدعو له، فالتفت عليه السلام الى أصحابه قائلاً: أيّما كان خيراً؟ ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار.

وتطرق الشيخ الكربلائي في خطبته الى أنواع العنف، التي نعضدُ معانيها بالنماذج والأمثلة التالية:

1-    العنف الاجتماعي: ويعني اللجوء الى العنف في حل المشاكل والنزاعات والاختلافات مع الآخرين بدلاً من محاولة فض النزاع بالحوار والتفاهم.

فإذا حدث اختلاف ونزاع مع شخص معين، فإن الإسلام والواعز الديني المتسامح يدعونا الى الحوار والتفاهم مع هذا الشخص او الجهة التي نحن في محل نزاع معها، وبعكس ذلك فان الامور قد تتأزم وتصل الى حد الاقتتال والخسائر الكبيرة بين الطرفين، وهذا ما لا يرضاه ديننا الحنيف الذي يدعو الى التسامح والعفو والحوار.

2-    العنف السياسي: ويعني استخدام وسائل غير مشروعة لتحقيق أهداف سياسية كالقتل للخصوم والتهديد لهم وتخويفهم وارعابهم والصاق التهم بهم من دون دليل والتهديد لهم والطعن في سيرتهم واستخدام الأساليب الخشنة في التعامل معهم وتسقيط الاعتبار الاجتماعي لهم داخل المجتمع.

ان هذه الوسائل غير لائقة بمن يبتغي اتخاذ العمل السياسي وسيلةً للخدمة واداء الوظيفة المخصوصة للسياسيين في إدارة امور البلاد بطرق تربوية مشروعة وحضارية. فضلاً عن انها بداية لفوضى لا تحمد عقباها من حيث ان الخصوم السياسيين سينتهجون نفس النهج في التجاوز والتهديد والوعيد والتسقيط، وهذا يعد تهديداً حقيقياً للعملية السياسية والنظام السياسي والاداري للدولة بشكل عام.

3-    العنف الأسري: وهو أن يشيع ويسود أسلوب التوبيخ والتأنيب والخشونة والقساوة والفضاضة في التعامل بين أفراد الأسرة او مع الابوين او بين الزوج والزوجة وقد يحصل احياناً اللجوء الى الضرب، وهذا ما لا يقبل به ديننا الحنيف، فهناك قواعد وضوابط لاستخدام اسلوب التوبيخ والتأنيب بحيث يجب أن يسبق ذلك استخدام الاسلوب الحكيم واللين والرفق والاسلوب التربوي الذي يكون مؤثراً، أما ان يلجأ الزوج لأن يضرب زوجته او أفراد أسرته كأسلوب تربوي فهذا غير مقبول اسلامياً..

4-    العنف في المخاطبة والحوار: احياناً حينما يكتب شخص الى آخر وهذا كثيراً ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي او في المخاطبة العادية، نلاحظ وجود اسلوب محترم يليق بمقام الجهتين، ولكن في كثير من الاحيان نجد قسوة وغلظة وخشونة في التخاطب بين البعض سواء كان تخاطباً مباشراً او عبر وسيلة الكتابة والمراسلة.

وهنا يجب الانتباه الى ان كل ما نكتبه او نتلفظ به باتجاه شخص آخر انما يشكل انطباعاً عن شخصيتنا ويمثل هويتنا الثقافية والتربوية، فكلما كان اسلوباً ليناً محترماً كلما كان الانطباع عنّا اكثر ايجابية، وبالنتيجة سنضمن اقناعاً وتأثيرا في الجهة المخاطَبة، فضلاً عن ان ديننا وائمتنا الهُداة قد أمرونا بالتحلي بالرفق واللين في مواضع الحوار والتخاطب والمراسلة. وقد جاء عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (كفاك أدباً تجنُّبك ما تكره من غيرك).

5-    العنف في الدعوة وأساليبها: ويعني الدعوة الى اتّباع التعاليم الدينية بأسلوب تطغى عليه الخشونة والفضاضة والتجاوز والإهانة ومس كرامة الآخرين!

لقد رفض الاسلام هذا الاسلوب جملة وتفصيلاً، حيث كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام لا يرضون بذلك ابداً، فإن كنتَ في موضع الدعوة للأمر بالمعروف والنهي عن  المنكر لابد ان يكون اسلوب الدعوة فيه احترام وتقدير لمشاعر الآخرين، لأن الأسلوب الخشن والغلظة والقسوة تعد نوع من أنواع العنف الذي لا يجدي نفعاً بل يؤدي الى نتائج عكسية..

وقد جاء في الآيات الكريمة ما هو مصداق لأسلوب الحكمة والرفق واللين في الدعوة، فقال تعالى (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).

والآية الكريمة: (فبما رحمة من الله لنتَ لهم ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك )..

6-    العنف العشائري: وهذا العنف نراه قد استشرى كثيراً وتغلغل في اوساط المجتمع بل أخذ يهدد الاستقرار الاجتماعي والنفسي والمعيشي والاقتصادي، حيث أخذت بعض العشائر منحى متطرف في اللجوء الى العنف والتقاتل والاعتداء على الآخرين واصدار الأحكام التي ما انزل الله بها من سلطان! ونراها في كثير من الاحيان منافية للأحكام الشرعية ومقتضيات الانتماء لهذا الوطن وحقوق المواطنة ومقتضى الاخلاق الحميدة التي اتصفت بها العشائر الاصيلة.. وفي اغلب هذه الحالات نرى ان الاسباب لا ترقى الى تقاتل مجموعات كبيرة من هذه العشائر وسقوط ضحايا عديدة منهم، واصابة الابرياء الذين لا ذنب لهم فضلاً عن تعطيل الحياة وارعاب المواطنين!

وهنا لا بد من ذكر الاهتمام الكبير الذي توليه العتبة الحسينية المقدسة لمسألة التزام العشائر بالأحكام الشرعية والقانون، فقد عقدت تحت رعاية ممثل المرجعية الدينية العليا الشيخ عبد المهدي الكربلائي العديد من المؤتمرات العشائرية، وصولاً الى إقرار وثيقة وقّع عليها شيوخ العشائر للالتزام بتوجيهات المرجعية الدينية واللجوء الى القانون في حل المنازعات والخلافات.

وكان آخر هذه المؤتمرات مؤتمر تصحيح السنن العشائرية الدخيلة على أعراف وتقاليد عشائرنا الأصيلة كالديات والفصول والنهوة والجلوة واطلاق العيارات النارية، والذي عقد بتاريخ 26-1-2019م، حيث وقّع الحضور على وثيقة شرف داخل الصحن الحسيني الشريف مقتضاها الالتزام بتوجيهات المرجعية الرشيدة..

وفي نهاية معالجته لظاهرة (العنف) جدّد ممثل المرجعية الدينية العليا دعوتهُ السابقة لبعض العشائر العراقية بالكفّ التام عن جميع الممارسات المخالفة للتعاليم الشرعية والاخلاقية والوطنية والتي انتشرت في الفترة الاخيرة وهي تمثل ظلماً فاحشاً لكثير من الأبرياء وتعدياً على حدود الله تعالى، مخاطباً هذه العشائر بالقول: الله..الله.. في حفظ حرمات المواطنين وحقوقهم وعدم التعدّي عليهم بغير حق..

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك