المرجعية الدينية تحذّر من تداعيات التشبّث بالمصالح الخاصة


المصلحة بحسب ما يُفهم من معاجم اللغة، هي ما يَبعث على الصلاح وما يتعاطاه الانسان من الاعمال الباعثة على نفعه وخيره او باعثة على نفع وخير الآخرين، وعلى ضوء هذا التعريف المقتضب يتضح وجود نوعان من المصلحة احداهما خاصة والأخرى عامة، وكلاهما نابع من غريزة لدى الانسان.

ويمكن القول بأن السعي لتحقيق المصلحة الخاصة هو أمر مشروع، لكن المشكلة في طغيان هذه الغريزة بحيث ان الانسان يغلّب مصالحه ومنافعه ويقّدمها على مصالح الآخرين بصورة مجحفة، ولا يفكّر ولا يهتم إلا بمصالح نفسه وذاته، حتى اذا استلزم ذلك الامر الإضرار بالآخرين، او اهمال مصالحهم إن كان المقصود في موقع مسؤول او يؤدي وظيفة معينة.

بل ان تقديم المصالح الخاصة والتشبث بها وترك مصالح الآخرين يؤدي للعديد من التداعيات السلبية، التي نبّهت اليها المرجعية الدينية مراراً، حيث ذكر سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي ذلك في خطبة الجمعة بالصحن الحسيني الشريف بتاريخ (21/12/2018)ان بعض المجتمعات ومنها مجتمعنا تعاني اليوم من تقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة في الكثير من شؤون الحياة، ومنها التعدي على الحقوق والاموال العامة والتقصير والاهمال في الاداء المهني والوظيفي وتقديم المصالح الحزبية والقومية الضيقة على المصالح العامة، وتغليب التعصب العشائري والقومي والحزبي والديني على الانتماء الوطني، وقد أدى ذلك الى ابتلاء الناس بالكثير من الازمات والتخلف وهضم الحقوق، وتأخُّر البلد والمجتمع وتخلّفه عن ركب المجتمعات الاخرى.

ولا ريب ان هذه السلوكيات تؤدي الى ضرورة ادراك ان مسألة مراعاة المصلحة العامة لا تخص شخصاً معيناً او كياناً معيناً في المجتمع بل هي تشمل المواطن العادي والموظف الحكومي والمعلم والمدرس والاستاذ والطبيب والتاجر والفلاح وأصحاب المهن والحِرف والسياسيين واصحاب الاختصاص والفنون المختلفة، وتخص الكيان العشائري والمذهبي والديني والقومي والانتماء الحزبي وغيره من العناوين العامة.

وهنا يفيد ممثل المرجعية العليا بشيء من التفصيل قائلاً المعلم والمدرس والاستاذ الجامعي الذي يؤثِر خدمة العلم والطالب ويقدّم ذلك على راحته وما يطلبه من امتيازات مالية او وظيفية حرصاً على تخريج الطالب المتعلم والماهر في اختصاصه والذي سيخدم مجتمعه في مستقبله بتفان واتقان، والطبيب الذي يؤثِر تطبيب مريضه ويعمل بكل وسعه وطاقته لتحقيق شفاء مريضه وان كان ذلك على حساب الامتيازات المالية والوظيفية له، والموظف الذي يحرص على خدمة مواطنيه واداء مهامه ووظائفه على الوجه الصحيح وان كان ذلك على حساب راحته وما يطلبه من امتيازات مالية ووظيفية، والتاجر الذي يحرص على تقديم افضل السلع لمجتمعه وان كان على حساب ربحه المادي، والسياسي الذي يؤثر مصالح بلده وشعبه على مصالح حزبه وكيانه السياسي... كل هؤلاء جديرون بالثقة بوطنيتهم وضميرهم الديني والوطني والغيرة على شعبهم، ومَن لا يكون كذلك بل آثر مصالحه الشخصية والضيّقة ولم يبالِ ولم يكترث بما يلحق بلده وشعبه ومواطنيه من ضرر وأذى طالما ان مصالحه الخاصة تتحقق فهو بعيد عن مفهوم الوطنية والحب لشعبه، وقد تحكمت فيه غريزة الأنانية حداً جعلتهُ عبداً يسير وفق ما تمليه تلك الغريزة.

ومن هنا يتضح ان البحث عن المصالح الخاصة بلا ضوابط او قيود ومبادئ وسلطة تحدّ من ذلك فحينئذ ستتحول الى قوة تدمير وافساد للمجتمع ومؤسساته، وتترك الضعفاء فريسة للأقوياء وأصحاب السلطة والقوة والمال، وسينعدم الاستقرار والسلم والامانة وتُهضم الحقوق، بل يهدّد مستقبل الاجيال القادمة.

فضلاً عن ذلك فإن تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة يؤدي الى زعزعة الثقة بين أفراد المجتمع، بحيث يطغى جانب التشكيك بالآخر على كل جهة او فرد وتصبح مسألة حب الوطن وبنائه والسعي لتطوره وتقدمه وازدهاره مجرد حلم في مهب الريح.

في حين ان المفترض في الظروف الصعبة هو تكاتف المجتمع، وايثار أفراده لمنافعهم ومصالحهم الخاصة لأجل مصلحة المجتمع ككل، لأنه في هذه الحال ستكون النتائج ايجابية للجميع، وقد جاء في الذِكر الحكيم ما هو مصداق لهذا الامر بقوله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وإيثار الشيء يعني اختياره وتقديمه على غيره، والخصاصة الفقر والحاجة.

ولكن، هناك وسائل وقواعد يمكن الوصول من خلالها الى حالة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ومن أهم هذه الوسائل الاهتمام بالمنظومة الفكرية والاخلاقية.

وفي هذا الشأن أكد الشيخ الكربلائي على ضرورة اهتمام المؤسسات التربوية بالمنظومة الفكرية والعقدية واعتبار هذه المؤسسات ركيزة مهمة من ركائز تطوير المنظومة الفكرية والاخلاقية. موضحاً معنى هذه المنظومة بأنها هي التي تبيّن منافع الاهتمام بمصالح الآخرين وقضاء حوائجهم وانها تعني الايثار والتضحية وقضاء حوائج الناس وحب الخير لهم، بغض النظر عن كونهم مماثلين لنا في الدين لأنهم نظراء لنا في الخلق..

ومن جانب آخر تعد مسألة وجود (القدوة) أي المسؤول الصالح، من الوسائل المهمة التي يمكن أن تصل بالمجتمع الى حالة تفضيل المصلحة العامة، فإيثار المسؤول (القدوة) لمصلحته، وتقديم مصالح أفراد المجتمع عليها سوف يولّد انعكاسات ايجابية كبيرة على الاوضاع الاجتماعية بصورة عامة.

وهذا ما انتهجه نبينا الكريم صلى الله عليه وآله حيث كان أسوة حسنة وقدوة يستضيء بها الناس، فكان يجلس بينهم ويستمع اليهم ويأكل مما يأكلون، بل كان يؤثر على نفسه خشية وجود فقير بين صفوف الأمة لا يجد ما يأكله، امتثالاً لقوله تعالى (ومَن يوقَ شُح نفسهِ فأولئك هم المفلحون).

وفي نموذج آخر للقدوة الصالحة، تحدّث ممثل المرجعية الدينية العليا عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قائلاً، عن أبو الطفيل: اشترى عليّ عليه السلام ثوباً فأعجبه فتصدّق به وقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة الجنّة, ومن أحبّ شيئاً فجعله لله قال الله يوم القيامة: قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف، وأنا أكافيك اليوم بالجنّة.

وهذه البيئة والقدوة الصالحة هي التي تصنع الانسان الذي يسعى للخدمة ونفع الآخرين، والتي يجب أن يكون المعلّم والطبيب والموظف والكاسب جزء حيوي ومهم منها، للوصول الى علو المجتمع واستقراره وازدهاره.

وأشار الكربلائي الى نقطة مهمة أخرى في سياق الوسائل التي تحقق المصلحة العامة ألا وهي المؤسسات التشريعية والتنفيذية المسؤولة عن حماية المصالح العامة، فقال أحياناً التربية والموعظة والنصيحة لوحدها لا تكفي، ويجب أن يرافقها القوانين التي تسنّها المؤسسات التشريعية لحفظ هذه المصالح العامة، وحفظ الحقوق العامة وحفظ الخدمات العامة ومنع أي شخص بعنوان الفرد او بعنوان الكيان أن يضر بالآخرين، ويجب كذلك وجود سلطة تنفيذية تطبّق هذه القوانين التي تحمي الاموال العامة وتحمي الخدمات العامة وتحمي الحقوق، وتمنع أي عنوان شخصي او عنوان أعم من الإضرار بالآخرين.

وختم الكربلائي بالقول علينا أن نلاحظ أن هذا المبدأ - مراعاة المصلحة العامة - هو مبدأ اسلامي وعقلائي، وأن الانسان كما يحرص على مصالح نفسه يجب أن يحرص على نفع وخير ومصالح الآخرين فحينئذ سيعم الخير الجميع، بينما العكس سيؤدي الى حرمان الجميع.

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك