العباس علية السلام نموذج لعصمة الماموم


محسن وهيب عبد

كربلاء المقدسة – 2015م

 

رقم (1)

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

1- مقدمة

بسم الله والحمد لله وصلى الله على خير خلق الله ؛ محمد واله الطيبين الطاهرين ، لا سيما بقية الله في الارضيين واللعن الدائم على الظالمين اعداء الله.

منذ اليوم الاول الذي خلق الله تعالى فيه ادم عليه السلام كان خليفة ، والى ما شاء الله تعالى ، فان الارض لم تخلو من حجة لله قائم هاد ؛ او بشير ونذير في كل امة من ابناء ادم  وعلى كل صقع من الارض.

 هؤلاء الهداة النذر والمبشرون ؛ لابد ان يكونوا كلهم معصومون لتتحقق حجة الله تعالى على عباده في صواب خيار الفعل من خلال الاقتداء والتأسي بهؤلاء المعصومين وطاعتهم، باعتبارهم تراجمة لمشيئة الله تعالى في تشخيص ما حسن وما قبح من خيارات الافعال ، فالمترجم عن الله تعالى يجب ان لا يخطا مطلقا.

ولذا فان الامامة سنة كونية نافذة في خلق الله، والامام حتم لازم في كون البشر، وعليه فالعصمة لازمة ذاتية للإمام الحق، لكنها في حال امكان لبقية البشر من غير الامام.

إذن ؛ اذا كانت العصمة اطروحة كونية ولازمة ذاتية لا يخلو منها زمان ولا مكان ، باعتبارها غاية الكون فيما يختار الله تعالى ويصطفي لها من البشر ، فان امكان العصمة لغير المختارين من قبل الله تعالى من انبياء ورسل وائمة مطهرين بإرادة الله تعالى من الرجس غير لازم لسائر البشر ، لكن العصمة اذا تحققت قي احد ما ، فانه يرقى لمعاني حجة الله تعالى البالغة على الناس.

فكما يكون المعصوم نبيا كان او رسولا او اماما حجة الله على عباده ، بالعصمة ، كذلك يكون اي انسان تتحقق له امكان العصمة مثل سيدنا ابي الفضل العباس عليه السلام  حجة لله على عباده.. كيف ؟ ولماذا؟

لأن امكان العصمة لغير المعصوم  يعطي معناً وجودياً كائنأ للعصمة المختارة المجسدة في القول والفعل الحسنين لسائر البشر وليس للمعصوم فقط . وهذا باعتبار؛ ان ليس ما يطلب الله تعالى في اوامره ونواهيه خارج الامكان، بل هو حاصل في الانسان المتمتع بتمام الطاعة لله تعالى، من خلال تمام الاقتداء والتأسي بالمعصوم الحجة ، وعلى هذا الاتجاه يأتي بحثنا هذا.

2- موقع العباس عليه السلام من العصمة:

العصمة؛ ملكة بشرية عاصمة للإنسان من اتيان  الظلم للنفس وللغير اصالة ودواما.

فهي لطف الهي يداخل الذين اصطفاهم الله تعالى من البشر ليكونوا حجته على عباده: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )( )، فلا يخلو منهم زمان ولا مكان، اذ العصمة حتم كونيّ تتلازم ذاتيا لجعل الله الانسان خليفة في الارض، و بموجبه كان أول إنسان نبيا، ولازال اللطف مستمرا على الارض مع وجود ألإمام المنتظر الحجة بن الحسن المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف فـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).

وجعل الامامة في ابراهيم عليه السلام واستمرارها في ذريته غير الظالمين كما يتحقق من قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)( ).

فالجعل الرباني للامامة متلازم مع العصمة ، و على سبيل هذا التلازم الذاتي بين رسالة الإنسان كخليفة في الأرض و ميزاته الإنسانية الراقية؛ يتطلب من الانسان تجسيد معاني تلك الخلافة ، وعليه سيكون لدينا مقياس ظاهر كي يبلغ البشر تلك الملكة (العصمة)، وذلك من مقدار تجسيد ارفع الميزات الراقية التي تميز الإنسان فضائلا وقيما، ليكون جديرا برسالته التي خلق من اجلها(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)( ).

اي ان الانسان يقترب من معاني ألعصمة ( عدم الظلم)، كلما كان خيار فعله وقوله قريبين من التطابق مع مجريات النسق الكوني الذي نجد نموذجه الكامل في سلوك نبينا محمد صلى الله عليه واله، وسلوك آله المطهرين صلوات الله عليهم التي تحكيها سيرتهم الصادقة الصحيحة، حيث تحققت معاني الخلافة ألجعل ، ولذا صنفت العصمة عقليا الى صنفين هما:

عصمة ذاتية، وهي حتم خيار الله تعالى للزوم حجته البالغة على خلقه، واصطفائه لخير عباده ورفدهم بروح من امره يرفع به كل القصورات عن عقولهم .

 وفضل اختياره سبحانه وتعالى هذا يخص به بشرا من السلالة المصطفاة عنده، فيكلفه ليترجم لطف الله تعالى الذي يحسن به  الوجود والحياة والعقل.

وعصمة مسددة؛ وهي نتاج تمام الطاعة لله وخلوص العبودية لخصوص عباده، باقتراب خياراتهم في القول والفعل من افعال النسق الكوني الذي تعكسه حركة الكون كله وتحكيه سيرة المصطفى محمد وآله صلوات الله عليهم، حيث تمام مشيئة الله تعالى.

 ولذا فلا شك اذا قلنا: ان العباس عليه السلام الذي اشتمل على كل صفات السداد والتوفيق؛ (الولاء والتسليم والوفاء والطاعة والمبالغة في النصيحة للمعصومين أبيه وإخوته)، انه عليه السلام معصوم مسدد. ولا يقلل من قيمته عليه السلام ان يكون هو القمر بجانب اخيه الحسين عليه السلام الشمس، ولو انها تطغى على اشراقه فلا يتحسب لإشراقه حين اشراقها. 

 ولذا ومن اجل اثبات هذا ، يكون من الضروري دراسة سيرة العباس منذ النشأة الاولى حتى استشهاده يوم الطفوف، لمعرفة كيف اشتمل في سيرته على معاني العصمة المسددة.

3- العباس عليه السلام نموذج المأموم المعصوم:

كما يكون هناك اماما معصوما حجة لله على الناس لاقتداء به، فالمأموم الذي يكمل معاني الطاعة والتأسي والاقتداء بالمعصوم ؛ فهو مأموم اسوة حسنة فيه حجة الله على خلقه ، لان هناك من الناس من يرى ان التكامل مع المعصوم بالطاعة حالة مثالية او امر مستحيل او غير ممكن او يعتبر العصمة حال كمال كوني حصل للمعصوم  نبيا كان او اماما بأمر الله تعالى وتطهيره وإرادته واختياره ، فكيف يجري ذلك لغيره ؟! 

 وإذا كان للمتحذلق ان ينكر فضل الله تعالى ؛ ويقول ان الامام المعصوم الزام من الله تعالى ولطف لا يتجاوز حده في غير المعصوم المختار ، بمعنى ان ليس للمعصوم الخيار في المعصية، فليس لاحد حق ان يقول ذلك في المأموم المعصوم مثل العباس عليه السلام، وليس لاحد ان ينكر فضل الله تعالى في هذا النموذج، فقد امكن وكان كما العباس عليه السلام ولذا فهو بعين الله وعين الرسول وعين المعصوم وسنبين ذلك في نصوص معصومة قيلت في العباس عليه السلام لم تقل في بشر من سائر الناس قط في ما يلي من البحث.

فالعباس امام المأمومين وقدوتهم الميدانية العملية الحسنة في اتباع الامام والوفاء له والطاعة والتسليم المطلق ومواسته وافتدائه بنفسه وكل ما يملك ، طبقا لمنهج الائمة والرسل عليهم السلام في رفض الظلم وبغض الظالمين  وتوطيد القيم ونشر الفضائل، وفق منهج معصوم.

ففي مقدمات الصياغة النفسية للعباس عليه السلام وصناعته؛ نشأ أبو الفضل العبّاس عليه السلام نشأة صالحة كريمة، قلّما يظفر بها إنسان، فقد نشأ في ظلال أبيه، التلميذ النجيب لحبيب رب العالمين صلى الله عليه واله والذي يصفه الرسول كنفسه( )، ولي الله الخالص، معدن الحكمة، ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض، فغذّاه بعلومه وورعه وتقواه، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه، وأنموذجاً لمثله، كما غرست أمّه السيّدة فاطمة بنت حزام الطاهرة العفيفة، ذات النسب العلي والشرف البهي عليها السلام في نفسه، جميع صفات الفضيلة والكمال، وغذّته بحبّ الخالق ألعظيم وحب المطهرين عليهم السلام وإخلاص الطاعة لهم كفرض عليه ، وكان اخواه الحسن والحسين عليهما ألسلام ، جعلته امه الزكية في أيّام طفولته يتطلّع إلى مرضاة الله وطاعته بمرضاة اهله المعصومين وطاعتهم، وظلّ ذلك ملازماً له عليه السلام  طوال حياته. فصار مثالا وقدوة حسنة لكمال معاني الائتمام بالمعصوم ، لمن اراد ان يتذكر او اراد شكورا. 

لم يناد العباس اخويه الحسن و الحسين عليهم السلام بالأخوة مع انه فعلا اخوهما ، بل كان ينادي اي منهما بـ(يأبن رسول الله او يا سيدي)، الا مرة واحدة يذكرها المؤرخون حين مصرعه( )

فقد لازم أبو الفضل عليه السلام، اباه عليا عليه السلام معلم الانسانية الفضل، ثم أخويه السبطين ريحانتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة فكان يتلقّى منهما مباشرة قواعد الفضيلة عمليا، وأسس الآداب الرفيعة سلوكا ميدانيا في كل لحظة من اللحظات التي لازمهما، وقد رأى كيف واجه الامام الحسن عليه السلام خذلان الامة، بحكمة عالية وصبر جميل، وقد لازم عليه السلام بصورة خاصة أخاه أبا الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، فكان لا يفارقه في حله وترحاله، وقد تأثّر بسلوكه، وانطبعت في قرارة نفسه مثله الكريمة وسجاياه الحميدة حتى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتجاهاته، وقد أخلص له الإمام الحسين كأعظم ما يكون الإخلاص وقدّمه على جميع أهل بيته لما رأى منه من الودّ الصادق له، حتى تفداه مرة بنفسه عليهما السلام. وهو الامام المعصوم. وهذه ميزة لم يحظ بها احد من الناس غير العباس عليه السلام.

4- وسام شرف لم ينله احد غير العباس في العالمين:

قال الحسين عليه السلام يوم الطف: (يا عباس اركب بنفسى انت يا اخي حتى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم وما بدالكم؟)( ).

إنّ المكونات التربوية الصالحة التي ظفر بها سيّدنا أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحين الذين غيّروا مجرى تاريخ البشرية بما قدّموه لها من التضحيات الهائلة في سبيل قضاياها المصيرية، وإنقاذها من ظلمات الذلّ والعبودية ، بزرعه لبذرة الاباء والوفاء وصدق الطاعة للمعصوم وتمام التسليم  في الضمير الانساني.

لقد فتح أبو الفضل عينيه ليجد الدنيا قد اعلنت الحرب على أهله الاولياء الصالحين ، وانتبه الى طريقة ابيه الامام علي عليه السلام ، في مجابهته لتلك الحرب الظالمة ، بالتضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحقّ، ورفع رسالة الإسلام الهادفة إلى تحرير إرادة الإنسان، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبة، والإيثار، وقد تأثر العباس بهذه المبادئ العظيمة وناضل في سبيلها كأشدّ ما يكون النضال، فقد غرسها في أعماق نفسه، ودخائل ذاته، أبوه الإمام أمير المؤمنين وأخواه الحسن والحسين(عليهم السلام)، اباة الضيم؛ هؤلاء العظام الذين حملوا شعار التوحيد في بغض الظالمين وحرب ألظلم ، فـ( ان الشرك لظلم عظيم)( )، ففتحوا للبشرية مناهج الحرية والكرامة، ومن أجل ميزات ارقى للإنسانية، وأن تسود العدالة والقيم الكريمة بين الناس.

5- العباس عليه السلام قدوة المتأسين الحسنة:

جاء المأثور عن المعصومين (عليهم السلام): (إنّ العبّاس بن علي زُقَّ العِلمُ زقاً)( ).

وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة، فإنّ الزقّ يستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوِ على الغذاء بنفسه، وحيث استعمل الإمام (عليه السلام) ـ وهو العارف بأساليب الكلام ـ هذه اللفظة هنا، نعرف أنّ أبا الفضل (عليه السلام) كان محلّ القابلية لتلقي العلوم والمعارف، منذ كان طفلاً ورضيعاً، كما هو كذلك بلا ريب.

وبعد هذا كُلِّه، فقد حوى أبو الفضل من صفاء النفس، والجبلّة الطيّبة، والعنصر الزاكي، والإخلاص في العمل، والدؤوب على العبادة ; ما يفتح له أبواباً من العلم، ويوقفه على كنوز المعرفة، فيتفرّع من كُلِّ أصل فرع، وتنحلّ عنده المشكلات.

وإذا كان الحديث ينصّ على :  أنّ مَن أخلص للّه أربعين صباحاً انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، إذن فما ظَنّك بمن أخلص للّه سبحانه طيلة عمره، وهو متخلّ عن كُلِّ رذيلة، ومتحلِّ بكُلِّ فضيلة، فهل يبقى إلاّ أن تكون ذاته المقدّسة متجلّية بأنوار العلوم والفضائل، وإلاّ أن يكون علمه تحقّقاً لا تعلّقاً؟!

فلم يكن أبو الفضل بِدْعَاً من أهل هذا البيت الطّاهر الذي حوى العلم المتدفّق منذ الصغر، كما شهد بذلك أعداؤهم، ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام):

أنّ رجلاً مرّ بعثمان بن عفان وهو قاعد على باب المسجد، فسأله، فأمر له بخمسة دراهم، فقال له الرجل: أرشدني، قال عثمان: دونك الفتية الذين تراهم، وأومأ بيده إلى ناحية من المسجد فيها الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر، فمضى الرجل نحوهم وسألهم، فقال له الحسن: يا هذا، المسألة لا تحلّ إلاّ في ثلاث: دم مفجع، أو دين مقرح، أو فقر مدقع، أيّتها تسأل؟ فقال: في واحدة من هذه الثلاث، فأمر له الحسن بخمسين ديناراً، والحسين بتسعة وأربعين ديناراً، وعبد اللّه بن جعفر بثمانية وأربعين، فانصرف الرجل ومرّ بعثمان، فحكى له القصّة وما أعطوه، فقال له: ومَن لك بمثل هؤلاء الفتية، أولئك فطموا العلم فطماً، وحازوا الخير والحكمة. قال الصدوق بعد الخبر: معنى (فطموا العلم): أي قطعوه عن غيرهم وجمعوه لأنفسهم ( ).

وجاء في كتب المقاتل عندما امتنع يزيد بن معاوية عن السماح للسجاد عليه السلام ان يرقى المنبر ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ائذن له فليصعد المنبر فلعلنا نسمع منه شيئا فقال : إنه إن صعد لم ينزل إلا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان فقيل له: يا أمير المؤمنين وما قدر ما يحسن هذا ؟ فقال : إنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا)( ).

ومن أجل ذلك قال العلاّمة المحقّق الفقيه المولى محمّد باقر ابن المولى محمّد حسن ابن المولى أسد اللّه ابن الحاج عبد اللّه ابن الحاج علي محمّد القائني ، نزيل برجند ، في كتاب الكبريت: ( إنّ العبّاس من أكابر وأفاضل فقهاء أهل البيت، بل إنّه عالم غير متعلّم، وليس في ذلك منافاة، لتعليم أبيه (عليه السلام) إياه )( ).

 

6- اثار سيئة في قاتلي العباس (عليه السلام): 

من الاشياء التي عرفناها في التاريخ ان قاتلي الأولياء والأنبياء هم ابناء زنا، وأنهم لا يفلتون من عقاب دنيوي فاضح لعملهم، لطفا من الله تعالى وعبرة للآخرين بعدم اهانة اولياء الله تعالى. فقد قال الإمام علي (عليه السلام): (احذروا السفلة، فإن السفلة من لا يخاف الله عز وجل، فيهم قتلة الأنبياء، وفيهم أعداؤنا)( ).

وما حدث لقاتلي العباس عليه السلام، يدل على منزلة العباس عند الله تعالى:

 اولا- (قال المدائني: حدّثني أبو غسّان هارون بن سعد، عن القاسم بن الأصبغ ابن نباتة، قال: رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه، وكنت أعرفه جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك؟ قال: إنّي قتلت شاباً أمردا مع الحسين( عليه السلام)، بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني، فيأخذ بتلابيبي حتّى يأتي جهنم، فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقى في الحي إلاّ سمع صياحي. قال: والمقتول هو العبّاس بن علي (عليه السلام))( ).

ثانيا- وروى سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمّد، عن القاسم بن الأصبغ المجاشعي قال: ( لما أُتي بالرؤوس إلى الكوفة، وإذا بفارس أحسن الناس وجهاً قد علق في لبب فرسه رأس غلام أمرد، كأنّه القمر ليلة تمّه، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض، فقلت: رأس من هذا؟ قال: رأس العبّاس بن علي، قلت: ومن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسدي)( ).

 قال: فلبثت أياماً وإذا بحرملة وجهه أشدّ سواداً من القار، فقلت: رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجهاً منك، وما أرى اليوم أقبح ولا أسود وجهاً منك؟ فبكى وقال: واللّه منذ حملت الرأس وإلى اليوم ما تمرّ عليَّ ليلة إلاّ واثنان يأخذان بضبعي، ثُمّ ينتهيان بي إلى نار تؤجّج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى، ثُمّ مات على أقبح حال ( ).

7- اخلاص العباس عليه السلام  ووفاؤه للمعصوم

عندما جاء الشمر ينادي بالأمان للعباس واخوته؛ اهمله وسكت العباس عليه السلام عنه، فقال الحسين عليه السلام: ( أجيبوه ولو كان فاسقاً ).

قالوا: ما شأنك؟ وما تريد؟

قال: يا بني أُختي، أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد.

فقال له العبّاس: لعنك اللّه ولعن أمانك، تؤمننا وابن رسول اللّه لا أمان له( )؟! وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء ، فرجع الشمر مغضباً( ).

إنّ هذا الجلف الجافي قد أساء الظنّ بهؤلاء الفتية نجوم الأرض من آل عبد المطلب، فحسب أنّهم ممّن يستهويهم الأمن والدعة، أو تروقهم الحياة مع أبناء البغايا، هيهات! خاب الرّجس ففشل، واخفق ظنّه، وأكدى أمله، ولم يسمع في الجواب منهم إلاّ لعنك اللّه، وتبّت يداك، ولعن ما جئت به.

وحيث إنّ ابن ذي الجوشن يفقد البصيرة التي وجدها أبو الفضل، والنفسية التي يحملها، والسؤدد المتحلّي به، والحفاظ اللائح على وجناته ; طمع أن يستهوي رجل الغيرة ويجرّه إلى الخسف والهوان والحياة مع الظالمين.

أيظنّ أن أبا الفضل ممن يستبدل النور بالظلمة، ويستعيض عن الحقّ بالباطل، ويدع علم النبوّة، وينضوي إلى راية ابن مرجانة؟! كلاّ

ولمّا رجع العبّاس وإخوته إلى الحسين واعلموه بما أراده الماجن منهم، قام زهير بن القين إلى العبّاس حدّثه بحديث، قال فيه: إنّ أباك أمير المؤمنين (عليه السلام) طلب من أخيه عقيل ـ وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها ـ أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب، وذوو الشجاعة منهم، ليتزوّجها، فتلد غلاماً فارساً شجاعاً، ينصر الحسين بطفّ كربلا، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصّر عن نصرة أخيك وحماية إخوتك .

فغضب العبّاس وقال: يا زهير، تشجّعني هذا اليوم، فو اللّه لأرينك شيئاً ما رأيته ( ).

وروي أن العباس بن على عليه السلام كان حامل لواء أخيه الحسين عليه السلام، فلما رأى جميع عسكر الحسين عليه السلام قتلوا وأخوانه وبنو عمه، بكى و [قال] انى إلى لقاء ربي اشتاق وأحن، فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين عليه السلام وقال: يا أخي هل رخصة ؟ فبكى الحسين عليه السلام بكاء شديدا حتى ابتلت لحيته المباركة بالدموع، ثم قال: (يا أخي كنت العلامة من عسكري ومجمع عددنا، فإذا أنت غدوت يؤل جمعنا إلى الشتات، وعمارتنا تنبعث إلى الخراب. فقال العباس: فداك روح أخيك يا سيدي قد ضاق صدري من حياة الدنيا، وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين. فقال الحسين عليه السلام: (إذا غدوت إلى الجهاد فاطلب لهؤلاء الاطفال قليلا من الماء)( ).

وعندما فقد يديه وضرب على راسه واصاب السهم عينه وقبل ان يصرع صاح إلى أخيه الحسين: أدركني، فلما أتاه رآه صريعا، بكى واراد حمله إلى الخيمة، لكنه اخبر الحسين برغبته في البقاء في مكانه.

 ولما قتل العباس قال الحسين عليه السلام: (الان انكسر ظهري وقلت حيلتى)، وبكى وأنشا يقول:

 تعديتم يا شر قوم ببغيكم   

              وخالفتم دين النبي محمد

 أما كان خير الرســـل أوصاكم بنا

               أما نحن من نجل النبي المسدد

 أما كانت الزهراء امي دونكم   

                 أما كان من خير البرية أحمد 

لعنتم واخزيتم بما قد جنيتم    

                فسوف تلاقوا حر نار توقد )( )

 وفي خبر: جاءه سهم وأصاب صدره الشريف وانصرع عفيرا على الارض يخور في دمه، ونادى وا أخاه وا حسيناه وأبتاه واعلياه، ونادى يا أبا عبد الله عليك مني السلام.

 

8- نموذجيته عليه السلام من قول المعصوم في معاني زيارته:

 

 الزيارة نص معصوم؛ فإذا قرأنا زيارة الصادق (عليه السلام) لجدّه العباس: (سلام اللّه وسلام ملائكته فيما تروح وتغدو، والزاكيات الطاهرات لك وعليك، سلام الملائكة المقرّبين والمسلمين لك بقلوبهم والناطقين بفضلك... )( ): وضح لنا ذلك:أنّ منزلة أبي الفضل تضاهي منزلة الحسين عليه السلام، حيث أثبت له مثل هذا السلام.

ثُمّ قال (عليه السلام): (أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النّبي المرسل)( ).

ها هنا أثبت لأبي الفضل منزلة التسليم التي هي من أقدس منازل السالكين، وفوق مرتبة الرضا والتوكّل، فإنّ أقصى مرتبة الرضا أن يكون محبوب المولى سبحانه محبوباً له، موافقاً لطبعه، فالطبع ملحوظ فيه. وقد ابلغه الله الفتح فقد قال الحسين عليه السلام: في كتابه إلى بني هاشم لمّا حلّ أرض كربلاء: من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح ( ). 

وهذه هي المنزلة الكبرى التي لا يحظى بها إلاّ ذوو النفوس القدسية، من الحجج المعصومين، ولا غرو إن غبط أبا الفضل الصدّيقون والشهداء الصالحون.

وإذا قرأنا قول الحسين للعبّاس، وهو يتفداه – كما مرّ معنا-   فذلك يدل على منزلة عظيمة للعباس عليه السلام، لمّا زحف القوم على مخيّمه، عشية التاسع من المحرم: اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم وتسألهم عمّا جاءهم، فاستقبلهم العبّاس في عشرين فارساً، فيهم حبيب وزهير، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: إنّ الأمير يأمر إمّا النزول على حكمه أو المنازلة، فأخبر الحسين، فأرجعه ليرجئهم إلى غد( ).

ثُمّ إنّ هناك مرتبة أُخرى ثبتت لأبي الفضل، خصّه بها الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود، فبعثك اللّه في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً، وأفضلها غرفاً ( ).

وأما قوله (عليه السلام) في الزيارة التي رواها المجلسي في مزار البحار ص165 عن مزار الشيخ المفيد وابن المشهدي: لعن اللّه أُمة استحلّت منّك المحارم، وانتهكت فيك حُرمة الإسلام ( ) ; فيرشدنا إلى مكانة سامية لأبي الفضل، تصعد به إلى فوق مرتبة العصمة، فإنّا لم نجد مثل هذا الخطاب في أي واحد من الشهداء، مع بلوغهم أعلى مرتبة الفضل التي لم يحزها أي شهيد غيرهم، حتّى استحقّوا أن يخاطبهم الإمام في زيارة النصف من رجب بقوله: السلام عليكم يا مهديون، السلام عليكم يا طاهرون من الدنس ( )، ويقول أيضاً: طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ( ).

بل لم يخاطب بمثل ذلك علياً الأكبر الذي لا شكّ في عصمته، ومنه يظهر أنّ للعبّاس منزلة ومقاماً يشارف مقام الحجج المعصومين (عليهم السلام)، تناط به حرمة ألإسلام كما تناط بهم صلوات اللّه عليهم، وإنّها تنتهك بمثله كما تنتهك بمثلهم (عليهم السلام)، وهذا مقام فوق العصمة المرجوّة له.

9- توكيد مكانة العبّاس عليه السلام في نصوص الأئمة المعصومين عليهم السلام:

أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام) يُقدّرون لمن هو دون العباس في تلكم الأحوال فضله، فكيف به وهو من لحمتهم، وفرع أرومتهم، وغصن باسق في دوحتهم؟! وقد أثبت له الإمام السجاد (عليه السلام) منزلة كبرى لم ينلها غيره من الشهداء وساوى بينه وبين عمّه جعفر الطيار عليه السلام، فقال (عليه السلام):

( رحم اللّه عمّي العبّاس بن علي، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطعت يداه ، فأبدله اللّه عزّ وجلّ جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، إنّ للعبّاس عند اللّه تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة )( ).

ولفظ (الجميع) يشمل مثل حمزة وجعفر الشاهدين للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة، وقد نفى البعد عنه العلاّمة المحقّق المتبحر في الكبريت الأحمر( ). 

ولعلّ ما جاء في زيارة الشهداء يشهد له: ( السلام عليكم أيّها الربّانيون، أنتم لنا فرط وسلف ونحن لكم أتباع وأنصار، أنتم سادة الشهداء في الدنيا والآخرة )( ).

وكذلك قوله (عليه السلام) فيهم: إنّهم لم يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق.

فقد أثبت لهم السيادة على جميع الشهداء، أنّهم لم يسبقهم ولا يلحقهم أي أحد، وأبو الفضل في جملتهم بهذا التفضيل، وقد انفرد عنهم بما أثبته له الإمام السجاد (عليه السلام) من المنزلة التي لم تكن لأيّ شهيد كما مرّ معنا.

ولو لم يكن الامام العباس عليه السلام مؤهل لهذه المراتب، لما كان الحسين عليه السلام يتفداه بنفسه كما مر معنا ولا كان أهل البيت (عليهم السلام)يدخلونه في أعالي أُمورهم ما لا يتدخّل فيه إنسان عادي، فمن ذلك مشاطرته الحسين (عليه السلام) في غسل الحسن (عليه السلام).

 فقد احتلّ أبو الفضل (عليه السلام) قلوب العظماء ومشاعرهم، وتطلع المتوسمون الى رضا الله تعالى بانموذجيته ، وصار أنشودة الأحرار في كلّ زمان ومكان، وذلك لتكامل شخصيته في اتباع المعصوم والتسليم له تسليم العبد المخلص للمولاه وسيده بالرغم من ان الامام المعصوم اخوه ويظهر ذلك من شعره:

والله ان قطــــعتم يميني       انّي أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين      نجل النبيّ الطاهر الاَمين( )

يحارب عن الدين وعن الامام نجل النبي صلى الله عليه واله، وليس بعاطفة الاخ، وهو في ذلك مخلص صادق العبودية لله لما قام به من عظيم التضحية تجاه الامام المعصوم أخيه سيّد الشهداء، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان، والانحراف وبنى للمسلمين منهجا عتيدا وصراطا مستقيما.

10- وفيما يلي بعض النصوص القيّمة التي أدلى بها المعصومون في حقّ أبي الفضل عليه السلام لمعاني عصمة مأموميته.

1- الإمام زين العابدين عليه السلام:

الإمام زين العابدين عليه السلام؛ الامام المعصوم المنصوص، حجة الله على الخلق؛ فهو من المؤسسين للتقوى والفضيلة في المجتمعات الانسانية، وكان هذا الإمام العظيم يترحّم - دوماً - على عمّه العبّاس، ويذكر بمزيد من الإجلال والإكبار تضحياته الهائلة لأخيه الحسين وكان مما قاله في حقّه هذه الكلمات القيّمة:

(رحم الله عمّي العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله الله بجناحين، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وان للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة)( )

قال لابي حمزة: (وهب الله لعمى العباس جناحين يطير بهما في الجنة، وهذا احد جزاء الله له لأنه وقف عليه الحسين ع وقال: يا اخى جزاك الله خيرا يا اخى لقد جاهدت في الله حق جهاده ثم قال: الان انكسر ظهرى)( )

كانت له عليه السلام بين أبطال كربلاء وشهداء التاريخ منزلة رفيعة، ومكانة سامقة، حتى قال سيّد الساجدين زين العابدين(عليه السلام) في حقّه: (إنّ للعبّاس عند اللَّه تبارك وتعالى لمنزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة)( ).

        وألمّت هذه الكلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحيات تجاه أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد أبدى في سبيله من ضروب الإيثار وصنوف التضحية ما يفوق حدّ الوصف، وبما كان به مضرب المثل على امتداد التاريخ، فقد قطعت يداه الكريمتان يوم الطفّ في سبيله، وظلّ يقاوم عنه حتى هوى إلى الأرض صريعاً، وان لهذه التضحيات الهائلة عند الله منزلة كريمة، فقد منحه من الثواب العظيم، والأجر الجزيل ما يغبطه عليه جميع شهداء الحقّ والفضيلة في دنيا الإسلام وغيره.

 

2- الإمام الصادق عليه السلام:

أمّا الإمام الصادق (عليه السلام) وهو الامام المعصوم المنصوص وحجة الله على اهل الارض وملة الإسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطولية يوم الطفّ، وكان مما قاله في حقّه: (كان عمّي العبّاس بن علي (عليه السلام) نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أخيه الحسين، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً)( )..

وتحدّث الإمام الصادق (عليه السلام) عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس والتي كانت موضع إعجابه وهي:

أ - نفاذ البصيرة:

أمّا نفاذ البصيرة، فإنها منبعثة من سداد الرأي، وأصالة الفكر، ولا يتّصف بها إلا من صفت ذاته، وخلصت سريرته، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أي سلطان عليه، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل فقد كان من نفاذ بصيرته، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لإمام الهدى وسيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد ارتقى بذلك إلى قمّة الشرف والمجد، وخلدت نفسه العظيمة على امتداد التأريخ، فما دامت القيم الإنسانية يخضع لها الإنسان، ويمجّدها فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها.

ب - الصلابة في الإيمان:

والظاهرة الأخرى من صفات أبي الفضل (عليه السلام) هي الصلابة في الإيمان وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الأجر عند الله، ولم يندفع إلى تضحيته بأي دافع من الدوافع المادية، كما أعلن ذلك في رجزه يوم الطفّ، وكان ذلك من أوثق الأدلة على إيمانه.

ج - الجهاد مع الحسين:

وثمّة مكرمة وفضيلة أخرى لبطل كربلاء العباس (عليه السلام) أشاد بها الإمام الصادق (عليه السلام) وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسيّد شباب أهل الجنّة، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات.

د - زيارة الإمام الصادق عليه السلام للعباس عليه السلام:

وزار الإمام الصادق (عليه السلام) أرض الشهادة والفداء كربلاء، وبعدما انتهى من زيارة الإمام الحسين وأهل بيته والمجتبين من أصحابه، انطلق بشوق إلى زيارة قبر عمّه العبّاس، ووقف على المرقد المعظّم، وزاره بالزيارة التالية التي تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس، وعظيم مكانته، وقد استهلّ زيارته بقوله:

 (سلام الله، وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصديقين والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين..)( ).

لقد استقبل الإمام الصادق عمّه العباس بهذه الكلمات الحافلة بجميع معاني الإجلال والتعظيم، فقد رفع له تحيات من الله وسلام ملائكته، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، والشهداء، والصدّيقين، وهي أندى وأزكى تحيّة رفعت له، ويمضي سليل النبوّة الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته قائلاً:

 (وأشهد لك بالتسليم، والتصديق، والوفاء، والنصيحة لخلف النبيّ المرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالم، والوصي المبلّغ والمظلوم المهتضم..)( )

وأضفى الإمام الصادق (عليه السلام) بهذا المقطع أوسمة رفيعة على عمّه العباس هي من أجلّ وأسمى الأوسمة التي تضفى على الشهداء العظام، وهي:

أ‌- التسليم:

وسلّم العباس (عليه السلام) لأخيه سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) جميع أموره، وتابعه في جميع قضاياه حتّى استشهد في سبيله، وذلك لعلمه بإمامته القائمة على الإيمان الوثيق بالله تعالى، وعلى أصالة الرأي وسلامة القصد، والإخلاص في النيّة.

ب - التصديق:

وصدّق العبّاس (عليه السلام) أخاه ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جميع اتجاهاته، ولم يخامره شكّ في عدالة قضيّته، وأنّه على الحق، وأن مَن نصب له العداوة وناجزه الحرب كان على ضلال مبين.

ج - الوفاء:

من الصفات الكريمة التي أضافها الإمام الصادق (عليه السلام) على عمّه أبي الفضل (عليه السلام)، الوفاء فقد وفى ما عاهد عليه الله من نصرة إمام الحق أخيه أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، فقد وقف إلى جانبه في أحلك الظروف وأشدّها محنة وقسوة، ولم يفارقه حتى قطعت يداه، واستشهد في سبيله.

لقد كان الوفاء الذي هو من أميز الصفات الرفيعة عنصراً من عناصر أبي الفضل وذاتياً من ذاتياته، فقد خلق للوفاء والبرّ للقريب والبعيد.

د - النصيحة:

وشهد الإمام الصادق بنصيحة عمّه العبّاس لأخيه سيّد الشهداء (عليه السلام)، فقد أخلص له في النصيحة على مقارعة الباطل، ومناجزة أئمّة الكفر والضلال، وشاركه في تضحياته الهائلة التي لم يشاهد العالم مثلها نظيراً في جميع فترات التاريخ… ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزيارة الكريمة، يقول (عليه السلام):

 (فجزاك الله عن رسوله، وعن أمير المؤمنين، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت، واحتسبت، وأعنت فنعم عقبى الدار...).

وحوى هذا المقطع على إكبار الإمام الصادق (عليه السلام) لعمّه العبّاس وذلك لما قدّمه من الخدمات العظيمة، والتضحيات الهائلة لسيّد شباب أهل الجنّة، وريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام الحسين (عليه السلام) فقد فداه بروحه، ووقاه بمهجته، وصبر على ما لاقاه في سبيله من المحن والشدائد مبتغياً في ذلك الأجر عند الله، فجزاه الله عن نبيّه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وعن باب مدينته الإمام أمير المؤمنين، وعن الحسن والحسين أفضل الجزاء على عظيم تضحياته.

ويستمرّ مجدّد الإسلام الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته لعمّه العبّاس، فيذكر صفاته الكريمة، وما له من المنزلة العظيمة عند الله تعالى، فيقول بعد السلام عليه:

 (أَشهد، وأُشْهِد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبّائه، فجزاك الله أفضل الجزاء وأكثر الجزاء وأوفر الجزاء وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته، واستجاب لدعوته، وأطاع ولاة أمره...).

لقد شهد الإمام الصادق - العقل المفكّر والمبدع في الإسلام وأشهد الله تعالى على ما يقول: من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس (عليه السلام) قد مضى في جهاده مع أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام)، على الخطّ الذي مضى عليه شهداء بدر الذين هم من أكرم الشهداء عند الله فهم الذين كتبوا النصر للإسلام، وبدمائهم الزكية ارتفعت كلمة الله عالية في الأرض وقد استشهدوا وهم على بصيرة من أمرهم، ويقين من عدالة قضيّتهم، وكذلك سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق، فقد استشهد لإنقاذ الإسلام من محنته الحازبة، فقد حاول صعلوك بني أميّة حفيد أبي سفيان أن يمحو كلمة الله، ويلف لواء الإسلام، ويعيد الناس لجاهليتهم الأولى، فثار أبو الفضل بقيادة أخيه أبي الأحرار في وجه الطاغية السفّاك، وتحققت بثورتهم كلمة الله العليا في نصر الإسلام وإنزال الهزيمة الساحقة بأعدائه وخصومه.

ويستمرّ الإمام الصادق عليه السلام في زيارته لعمّه العباس عليه السلام مسجلا كل معاني الإكبار والتعظيم ، ومعلما بنموذجية مأمومية العباس الميدانية الواقعية طارحا لها للننهل منها ونكون مثلها، فيقول:

 (أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود فبعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً، وأفضلها غرفاً، ورفع ذكرك في علّيين وحشرك مع النبيّين، والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

أشهد أنّك لم تهن ولم تنكل، وأنّك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتبعاً للنبيّين، فجمع الله بيننا، وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين، فإنّه أرحم الراحمين...)

ويلمس في التوصفيات الأخيرة للعباس من الزيارة مدى أهميّة العبّاس، وسموّ مكانته عند الإمام المعصوم؛ الإمام الصادق (عليه السلام)، وذلك لما قام به هذا البطل العظيم من خالص النصيحة، وعظيم التضحيّة لريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله الإمام الحسين عليه السلام، كما دعا الإمام له ببلوغ المنزلة السامية عند الله التي لا ينالها إلا الأنبياء، وأوصيائهم، ومن امتحن الله قلبه للإيمان.

الإمام الحجة:

وأدلى الإمام المصلح العظيم بقيّة الله في الأرض قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله) بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس (عليه السلام) جاء فيها:

 (السلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد، وحكيم بن الطفيل الطائي...)( ).

وأشاد بقيّة الله في الأرض بالصفات الكريمة الماثلة في عمّه قمر بني هاشم وفخر عدنان، وهي:

1- مواساته لأخيه سيّد الشهداء (عليه السلام)، فقد واساه في أحلك الظروف، وأشدّها محنة وقسوة، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاريخ.

2- تقديمه أفضل الزاد لآخرته، وذلك بتقواه، وشدّة تحرّجه في الدين، ونصرته لإمام الهدى، وانه لم يسمه الا بابن رسول الله صلى الله عليه واله.

3- تقديم نفسه، وأخوته، وولده فداءً لسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السلام).

4- وقايته للمعصوم واهل بيته بمهجته.

5- سعيه لأخيه وأهل بيته بالماء حينما فرضت سلطات البغي والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبيّ (صلى الله عليه وآله).

10- ما ظهر للعباس عند الشعراء:

وهام الأحرار من شعراء أهل البيت(عليهم السلام) يشيدون بشخصية أبي الفضل التي بلغت قمّة الشرف والمجد، وسجّلت صفحات من النور في تاريخ الأمّة الإسلامية، وقد نظموا في حقّه روائع الشعر إكباراً وإعجاباً بعطائه للإنسانية مثلا فاضلة قيّمه، وللإسلام منهجا ومعيار لصدق الايمان  والتسليم بتطبيق نظام الملة الذي هو اساسا الاسلام والذي يقوم على طاعة الامام المعصوم فيما يلي بعض من ارتقى من الشعراء الى وجه الحكمة فيما اعطاه العباس عليه السلام:

1- الكُمْيت:

أمّا شاعر الإسلام الأكبر الكُمْيت الأسدي فقد انطبع حبّ أبي الفضل في أعماق نفسه، وقد تعرّض لمدحه في إحدى هاشمياته الخالدة قال:

يقول الكميت بن زيد:

وابو الفضل إن ذكرهم الحلو                 شفاء النفوس من اسقام

قتل الادعياء إذا قتـــــــــــــلوه   أكرم الشــــــــاربين صوب الغمام( )

إنّ ذكر أبي الفضل العباس (عليه السلام)، وسائر أهل البيت(عليهم السلام) يستحليه عن كل شريف لأنّه ذكر للفضيلة والكمال الانساني المطلق، كما أنّه شفاء للنفوس من أسقام الجهل والغرور، وسائر الأمراض النفسية.

2- الفضل بن محمد:

من الشعراء الملهمين الذين هاموا بشخصية أبي الفضل (عليه السلام) هو حفيده الشاعر الكبير الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس فقد قال:

إنـــــي لأذكـــــر لـــــلعبّاس مـوقفه    

                          بكربــــلاء وهــــام الــقوم يختطف

يـــحمي الحسين ويحميه على ظمأٍ      

                                ولا يـــــولّي ولا يــــثني فــــيختلف

ولا أرى مشـــــهداً يـــوماً كمشهده   

                                مع الحسين عليه الفضل والشرف

أكــــرم بـــــه مشهداً بانت فضيلته       

                               وما أضــــاع لـه أفعـــــــاله خلف( )

وصوّرت هذه الأبيات شجاعة أبي الفضل (عليه السلام) المستندة الى اليقين والبصيرة وما قام به من دور مشرق يدعو إلى الاعتزاز والفخر في حماية الامام المعصوم أخيه أبي الأحرار، ووقايته له بمهجته، وسقايته له ولأفراد عائلته وأطفاله بالماء، فلم يكن هناك مشهد أفضل ولا أسمى من هذا الموقف الرائع الذي وقفه أبو الفضل مع أخيه أبي عبد الله (عليه السلام) 

وقد استولت مواقف أبي الفضل على حفيده الفضل فهام بها ورثاه بذوب روحه، وكان من رثائه له هذه الأبيات الرقيقة:

أحــــق الــــناس أن يبكى عليه      فـــتى أبـــكى الحسين بكربلاء

اخوه  وابن والـده علي                  أبو الفضل المضرّج بالدماء

ومــــن واســــاه لا يثنيه شيء        وجاد له على عطش بماء( )

        نعم إن أحق الناس أن يمجد ويبكى على ما حلّ به بعد الحسن والحسين عليهما السلام، من رزء قاصم هو أبو الفضل ابي الضيم ورمز الإباء والفضيلة، فقد رزأ الإمام الحسين (عليه السلام) بمصرعه، وبكاه أمرّ البكاء لأنّه فقد بمصرعه أبرّ الإخوان، وأعطفهم عليه.

3- السيّد راضي القزويني:

وهام الشاعر العلوي السيّد راضي القزويني بشخصية أبي الفضل (عليه السلام) قال:

أبـــا الفضل يا من أسس الفضل والإبا

                          أبى الفــــــضل إلا أن تــــكون لــــه أبا

تطلـــــبت أســـــباب العــــلى فبــلغـتها

                     وما كـــــل ســـــاع بـــــالغ مــــا تـطلبا

ودون احتـــــمال الضــــــيم عـزّ ومنعة

                    تخـــــيرت أطـــــراف الأســـــنّة مركبا( )

<h4 style=t

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك