الوحيد البهبهاني حد فاصل بين عصرين

1444 2012-03-26

استقر الوحيد البهبهاني الشيخ محمد باقر في كربلاء بعد سنة 1160 هجرية بعد أن طارت شهرته العلمية في الآفاق وكانت الزعامة الدينية حينها للشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق الناضرة. وبسبب الصراع القائم آنذاك في كربلاء بين الإخباريين والأصوليين لم يشأ وهو في أول وروده للمدينة أن يعطي دروسه في علم الأصول علنا بل كان يعطيها لتلاميذه في السراديب ولكنه قرر فيما بعد أن يعلن مقارعته النزعة الإخبارية.

مدرسة الوحيد البهبهاني

نضجت الحركة العلمية عند إطلالة القرن الثاني عشر الهجري في كربلاء المقدسة، متجليا بمدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني، الأصولية التي افتتحت عصراً جديداً في تاريخ العلم، وأكسبت الفكر العلمي في العصر الثاني الاستعداد للانتقال إلى عصر ثالث. وعاشت المدرسة قرابة السبعين عاماً لتفتح آفاقا جديدة في الكيان العلمي الكربلائي، كان له صدى حافلا بالإكبار والتقدير. ومن الجدير أن نستمع إلى مصدر يحدثنا عن أثر هذه المدرسة العلمية ومدى ما نالته من اتساع القابليات الفكرية الرائعة، يقول المصدر: وقد نصبت هذه المدرسة الجديدة نفسها لمقاومة الحركة الإخبارية، وتأييد علم الأصول، حتى تضاءل الاتجاه الإخباري، وقد قامت هذه المدرسة إلى صف ذلك بتنمية الفكر العلمي، والارتفاع بعلم الأصول إلى مستوى أعلى، حتى أن بالإمكان القول بأن ظهور هذه المدرسة وجهودها المتضافرة التي بذلها البهبهاني وتلامذة مدرسته المحققون الكبار قد كان حداً فاصلاً بين عصرين من تاريخ الفكر العلمي في الفقه والأصول. وبذلك تكون هذه المدرسة قد افتتحت بذلك عصراً جديداً في تاريخ العلم متأثراً بعدة عوامل:

1 ـ عامل رد الفعل الذي أوجدته الحركة الإخبارية، وبخاصة حين جمعها مكان واحد مثل كربلاء بالحوزة الأصولية، الأمر الذي يؤدي بطبيعته إلى شدة الاحتكاك وتضاعف رد الفعل.

2- أن الحاجة إلى وضع موسوعات جديدة في الحديث كانت قد أشبعت ولم يبق بعد وضع الوسائل، والوافي، والبحار، إلا أن يواصل العلم نشاطه الفكري مستفيداً من تلك الموسوعات في عمليات الاستنباط. 3 ـ أن الاتجاه الفلسفي في التفكير الذي كان السيد حسين الخونساري المتوفى 1098هـ قد وضع إحدى بذوره الأساسية وزود الفكر العلمي بطاقة جديدة للنمو، وفتح مجالاً جديداً للإبداع، وكانت مدرسة البهبهاني هي الوارثة لهذا الاتجاه.

4 ـ عامل المكان: فان مدرسة الوحيد البهبهاني، نشأت على مقربة من المركز الرئيس للحوزة ـ وهو النجف ـ فكان قربها المكاني هذا من المركز سبباً لاستمرارها ومواصلة وجودها عبر طبقات متعاقبة من الأساتذة والتلامذة، مما مكنها أن تضاعف خبرتها باستمرار، وتضيف خبرة طبقة من رجالاتها إلى خبرة الطبقة التي سبقتها، حتى استطاعت أن تقفز بالعلم قفزة كبيرة وتعطيه ملامح عصر جديد. وللكشف عن حصيلة هذه الفترة العلمية في كربلاء يكفي أن تشير إلى:

1 ـ كتاب الحدائق ـ للمرحوم الشيخ يوسف البحراني وقد تحدثت عنه المصادر المختصة بأنه كتاب جليل لم يصنف مثله، جمع فيه جميع الأقوال والأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار، إلا أنه طاب ثراه لميله إلى الإخبارية كان قليل التعلق بالاستدلال بالأدلة الأصولية التي هي أمهات الأحكام الفقهية، وعمد الأدلة الشرعية.

2 ـ كتاب الرياض ـ للسيد علي بن محمد الطباطبائي، وقد وصف بأنه "في غاية الجودة جداً بحيث لم يسبق له مثيل، ذكر فيه جميع ما وصل إليه من الأدلة والأقوال على نهج عسر على من سواه بل استحال.

3 ـ كتاب الفصول ـ للشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الحائري، وقد وصفه الخونساري بقوله: من أحسن ما كتب في أصول الفقه واجمعها للتحقيق والتدقيق واشملها لكل فكر عميق، وقد تداولته جميع أيدي الطلبة في هذا الزمان وتقبلته القبول الحسن في جميع البلدان.

تلامذته

خرّج الوحيد البهبهاني من مدرسته العلمية علماء كبار كانوا بعده مراجع الأمة وزعماء المدرسة’ من أمثال السيد محمد مهدي ابن السيد مرتضى الطباطبائي المعروف ببحر العلوم (1155ـ1212هـ) والسيد مهدي الشهرستاني (1130ـ 1216 هجري) والشيخ جعفر بن خضر الجناجي (المعروف بكاشف الغطاء 1154 ـ 1228 هجري) والسيد علي الطبطبائي المعروف بصاحب الرياض ( 1161 ـ 1231 هجري) (والسيد محمد المجاهد نجل صاحب الرياض وسبط الشيخ الوحيد (1180- 1242 هجرية) والشيخ أسد الدين إسماعيل الكاظمي المعروف بالمحقق الكاظمي 1185- 1216 هجرية بالإضافة إلى عدد كبير آخر من العلماء في كربلاء والنجف الاشرف..

وطبيعي جدا أن تنتقل آثار مدرسة الوحيد إلى خارج كربلاء التي أصبحت خلال أكثر من خمسة وثلاثين عاما هي فترة مرجعية الشيخ الوحيد قبلة لعشاق العلم وطالبي المعرفة من كل بقاع العالم الإسلامي. أصبح تلاميذ الوحيد بعد وفاته زعماء الدين وقادة المرجعية وأصبح تلاميذهم من بعدهم قادة الأمة وزعماء المدرسة وهذا يعني أن الوحيد أو مدرسته قد استمرت بعد وفاته حتى ظهور الشيخ الأنصاري الذي اعتبر مجددا في علم الأصول وصاحب مدرسة متميزة فيه ومع وفاة الوحيد البهبهاني في عام 1205 هـ انتقلت زعامة المدرسة الفقهية إلى النجف الاشرف ليتربع على زعامتها علماء كبار تخرجوا من مدرسته منهم الشيخ جعفر كاشف الغطاء والسيد مهدي بحر العلوم، إلا أن الحركة العلمية في كربلاء لم تضعف بل استمرت قوية بوجود كبار خريجي المدرسة منه أمثال السيد علي صاحب الرياض ونجله السيد محمد المجاهد.

فترة الصراع الأصولي الإخباري

تشير اغلب المصادر إلى أن حركة الوحيد البهبهاني ومناظراته العلمية وطرحه للاتجاه الأصولي أسفرت فيما بعد عن تراجع النزعة الإخبارية في كربلاء التي كانت قبل ذلك أقوى مراكزها على الإطلاق حتى وصل الأمر أن يفتي الوحيد البهبهاني كما قيل ببطلان الصلاة خلف الشيخ يوسف البحراني ولكن الشيخ يوسف افتى بجواز الصلاة خلف الشيخ الوحيد وذكر صاحب أنوار البدرين أن السيد علي الطباطبائي الذي كان من تلاميذ الشيخ يوسف البحراني (كان يحضر عنده سرا لا جهرا خوفا من خاله الشيخ محمد باقر البهبهاني) وهذه الحالة تكفي للدلالة على تقدم الأصوليين في كربلاء وتراجع الإخباريين بعد أن كانوا أسياد الساحة العلمية.

معاصرو ه

لا بأس بالتعرض إلى جمع من مفاخر أعلامنا الذين عاصروا المرحوم الوحيد، نذكر بعض المشاهير منهم: الآقا محمد باقر الهزار جريبي المازندراني (المتوفى: 1205). الشيخ عبد النبي القزويني (المتوفى: 1208). السيد جعفر السبزواري، (المتوفى: 1218). الآقا السيد حسين القزويني (المتوفى: 1218). الشيخ محمد مهدي الفتوني (المتوفى: 1183). الشيخ يوسف البحراني، صاحب "الحدائق الناضرة" (المتوفى: 1186). الآقا السيد حسين الخوانساري، صاحب "مشارق الشموس" (المتوفى: 1191). الشيخ محمد تقي الدورقي النجفي. الميرزا محمد باقر الشيرازي. مير عبد الباقي الخاتون آبادي الأصفهاني.

وفاته ومرقده:

يحدثنا حفيد العلامة الوحيد (قدس سره) الاقا أحمد الكرمان شاهي عن تاريخ وفاة جدّه في "مرآة الأحوال"، فيقول - ما ترجمته: وقد عمّر وجاوز التسعين، واستولى عليه الضعف أخيرا، وترك البحث وأمر بحر العلوم بالانتقال إلى النجف الأشرف والاشتغال بالتدريس فيه، وأمر صهره صاحب "الرياض"- بالتدريس في كربلاء المشرفة في يوم التاسع والعشرين من شهر شوال سنة ألف ومائتين وخمس من الهجرة النبوية، حلقت روحه الطاهرة إلى الجوار الربوبي، وتشرف بالدفن على أعتاب أقدام شهداء الطف، وبسبب الإصلاحات والتعمير الذي حدث في الروضة الحسينية المباركة تشرف بأن اتفق دخول قبره الشريف داخل حرم سيد الشهداء عليه السلام، ونصبت على جدار الرواق صخرة علامة لمرقده الشريف.
التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك