كربلاء والمسرح علاقة تاريخية


لا مناص من الاعتراف بأن الفعل المسرحي قد بدأ انحساره منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم ، ليس في مدينة كربلاء المقدسة فقط .. بل في عموم مدن العراق، بعدما عاش حصره الذهبي ابان السبعينيات، حتى وصل لما وصل إليه في الآونة الأخيرة من قبل السقوط من تردي واضح، سوى بعض التجارب الجادة هنا وهناك، شأن المسرح في ذلك شأن جميع ضروب الفن والأدب بصورة عامة، نتيجة عسكرة الواقع الثقافي، أو محاولات تسييس الفن والأدب آنذاك، خدمة لأغراض مشبوهة، أو تمجيداً للبطل الكارتوني الأوحد.

ولاشك فإن مثل هذا التوجه المريب وهذا التزييف المتعمد قد عاث خراباً وتخريباً وتشويهاً لرسالة المسرح السامية، حتى صار المسرح كأنه مكاناً للتهريج والإبتذال، يقصده البعض للتسلية والضحك، او قتل الفائض من الوقت، أو لإشباع غرائز رخيصة، إن هو ابتعد عن التعبوية  والتسييس والتمجيد بالقائد وبمعركة البوابة الشرقية، رغم إن الرسالة الجوهرية للمسرح هي في محاولته صناعة حياة أفضل للناس، وكما قيل:( أعطني مسرحاً أعطك شعباً مثقفاً)، أو كما  قال الفيلسوف والمسرحي الفرنسي فولتير:(في المسرح وحده تجتمع الأمة؛ ويتكون فكر الشباب وذوقه).

ومن ثم ما أضيفت على مثل ذلك الواقع من صعوبات وتضييق ومحاربة بعد أحداث الانتفاضة الشعبانية المباركة، وما تلاها من تداعيات خطيرة، بطغيان طابع الفن التعبوي أو المسرح التجاري، ومسرح ما يسمى بالمناسبات الوطنية – اذا جاز التعبير- ، ومن ثم ما رافق هذا من صعوبات التحصيل المعاشي في ظل الحصار الاقتصادي الخانق، ومن الطبيعي أن ينسحب كل ذلك على الفعل المسرحي في مدينة كربلاء المقدسة، رغم ما عرفت به من تاريخ حافل بالإنجاز، كتجربة متميزة ورائدة من بين مسارح مدن العراق قاطبة، قد شهد لها بهذا وبعلوي الكعب الفني.. القاصي قبل والداني.

لكن وفي خضم هذا الانحسار أطل ويطل علينا المسرح الحسيني بفعاليته النشطة التي تدعو إلى التفاؤل، وفتح أبواب الأمل في مسرح جاد يؤدي رسالته الفنية السامية،  وهو ما شهده ويشهده مسرحنا اليوم من خلال ملاحظة بوادر انتعاش ملحوظ في العروض المسرحية، خاصة ما شهدناه ونشهده من تعدد إقامة المهرجانات والملتقيات المسرحية، ومن فعاليات ونشاطات وعروض عديدة خاصة أثناء موسم عاشوراء وصفر، ناهيك عن الفعاليات الممسرحة من خلال الإلقاء التمثيلي لبعض شخوص الواقعة خاصة الأطفال منهم في عزاءات كربلاء ومواكبها أثناء مواكب التعزية الحسينية، أو بطقوس التعزية أو مسرح الشارع.. الضارب بتاريخه في ربوع المدينة المقدسة منذ القدم، حتى عد الباحثون والمهتمون في الشأن المسرحي (التشابيه) من تجارب المسرح الرائدة، ليس على مستوى العراق والوطن العربي فحسب، بل على مستوى العالم.

ولا غرابة أن يبدأ المسرح عموماً والمسرح الحسيني خاصة، حراكه الفني، وانطلاقته الجديدة، وانتعاشته الجديدة المباركة من مدينة كربلاء المقدسة واليها.. فهي المدينة المشبعة أصلا بالتراجيديا الملحمية لمقتل الحسين عليه السلام.. حيث إن المسرح أرتبط منذ نشأته الأولى عند اليونان والإغريق بأماكن العبادة مصاحباً للطقوس الدينية والعبادية، ولا شك فإن ارتباط  الديني بالمسرحي في مدينة كربلاء المقدسة له ما يبرره على أرض الواقع، فقد كانت مدينة كربلاء المقدسة وما تزال مترعة بالتراجيديا والدراما الحسينية بقصة كربلاء ( واقعة الطف الخالدة)، وأجوائها مشبعة بعبق الشهادة والتضحية والفداء، نتيجة احتضانها للأحداث الدامية لفاجعة أهل بيت النبي صل الله عليه وآله، وتمثل مأساتها، وتكرار الاحتفاء السنوي خلال شهري محرم وصفر.. وتجدد مأساتها، وهو ما يمثل شحن شعوري مهم، وإدامة للحس التراجيدي اتجاه الصراع الأزلي المستمر ما بين الحق والباطل.    

التعليقات
تغيير الرمز
تعليقات فيسبوك