سركيس الشّيخا الدّويهي
لعلَّ سائلًا يسألُ: ما هو سرُّ وُقوفِ المسيحيّينَ بينَ يدَيْ فاجعةِ أبي الأحرار الإمامِ الحسين (عليه السّلام)، يجتمعونَ بخشوعٍ، ويستذكرونَ بإجلالٍ، ويستحضرونَ بتمعُّنٍ؟ ولماذا ظلّتْ مأساةُ الطَّفِّ محتفظةً بحرارتِها وقد مضى عليها ما يُقاربُ الأربعةَ عَشرَ قرنًا؟
إنّ نهضةَ الحسينِ (عليه السّلام) لم تكُنْ ظاهرةً انفعاليّةً لفورةٍ عابرةٍ، بل كانت في واقعِ الأمرِ تصدِّيًا عَزومًا للقوى الظّلاميّةِ الغاشمةِ، وصَيْحَةً مُجَلجِلَةً لاجتثاثِ البِدَعِ ودَغَلِ النُّفوسِ ووثنيّةِ الأفكارِ لذلك، فالنّموذجُ الحسينيُّ يتقارَبُ مع النّهجِ المسيحيِّ في اعتمادِ النَّسَقِ الإنسانيِّ للثّورةِ، فكلاهُما ما نَهَضا إلّا لتوكيدِ وترسيخِ الحقِّ الإلهيِّ الّذي ما أُنزِلَتِ الرّسالاتُ السّماويّةُ الثّلاثُ إلّا لتكريسِهِ في أعماقِ النّفوسِ، وهو الحقُّ الّذي يُنظِّمُ علاقةَ الإنسانِ بربِّهِ ثمَّ بأخيهِ في الإنسانيّة، ومثلما جاءَ المسيحُ (عليهِ السّلام) إلى اليهودِ مُبَشِّرًا بالعهدِ الجديدِ بعدما فَسَدَتِ الضّمائرُ وحُرِّفَتِ الشّرائعُ، فاعتقلوهُ، وجلدوهُ، وضَفَروا جبينَهُ بالشّوكِ، وصلبوهُ، فافتدى عليهِ السّلامُ بآلامِهِ النّاسَ أجمعينَ، خرجَ الحسينُ (عليهِ السّلام) لا أَشِرًا ولا بَطِرًا ولا ظالمًا ولا مُفسِدًا، بل لطلبِ الإصلاحِ في أمّةِ جدِّهِ، ولتقويم الانحرافِ بعدما أطلَّتِ الجاهليّةُ من جديدٍ برأسِها المُتَجَبِّرِ، فما كانَ من الأدعياءِ أبناءِ الطُّلَقاءِ إلّا أن قاتلوهُ، وأَجهَزوا عليهِ وعلى القلّةِ القليلةِ من أبنائِهِ وأصحابِهِ، فافتدى عليه السّلامُ بنفسِهِ وبأبنائِهِ وأصحابِهِ دينَ جدِّهِ من الزَّيْغِ والضّلالِ والتّحريف.
إنّ المسيحَ والحسين (عليهِما السّلام) قدّما نفسَيْهُما الطّاهرتَيْنِ قربانًا من أجلِ القيمِ النّبيلةِ والأخلاقِ السّاميةِ المُبْرَأَةِ من أيّةِ أغراضٍ دنيويّةٍ أو مغانمَ شخصيّةٍ.
إنّ شعلةَ الإباءِ والكرامةِ ورَفْضِ الضَّيْمِ والغيرةِ على العقيدةِ الّتي أوقدَها الإمامُ الحسين (عليه السّلام) بملحمتِهِ الخالدةِ، وأوضَحَها بحبرٍ جديدٍ من دمِ الشّهادةِ فوقَ ثرى الطَّفِّ، كانتْ يتيمةَ الدُّهورِ، ولم يُسجِّلِ التّاريخُ شبيهًا لها لا في المعنى ولا في المبنى، وارتقَتْ بعنفوانِها درجاتٍ فوقَ الملاحمِ الّتي تُجادُ بها النُّفوسُ وتُستَرْخَصُ لها الأرواحُ، فكانت شخصيّةُ الحسينِ (عليه السّلام) شمعةَ الأديانِ المُشْتَعِلَةِ أَبَدَ الدُّهورِ، تَلتَهِبُ بأَوارِها الفَوّارِ، وتتوقّدُ بحرارةٍ ضاريةٍ، لا تَنطفِئُ ولا تَخمُدُ.
ولهذا، كانَ الحسينُ (عليه السّلام) مَهوى القلوبِ الشّفّافةِ وعِشْقَ الضّمائرِ الأبيّةِ، لأنّه تركَ للتّاريخِ الإنسانيِّ "كربلاءَ" تلك الجامعةَ الزّاخرةَ بالأدبِ الثّوريِّ والعقائدِ الجّمّة.
إنَّ ثورةَ الإمامِ الحسين (عليه السّلام) لم تكنْ ثورةً إسلاميّةً شيعيّةً فحسب، بل كانت ثورةً إنسانيّةً شاملةً مطلَقَةً، ساحتُها كربلاء ومِساحتُها على امتدادِ الكون. لهذا، فإنّ الحسينَ (عليه السّلام) لا يَخُصُّ فئةً محدَّدَةً، ولم يأتِ من أجلِ مرحلةٍ عابرةٍ تَنقَضي بانقضاءِ الحدثِ، فيَمتَصُّ الزَّمانُ وَهْجَهُ السّاطعَ، ويترُكُهُ مجرَّدَ أطلالٍ. فكلُّ مكانٍ تُنتَهَكُ فيهِ الحرّيّاتُ، وتُسْلَبُ الحقوقُ، وتُهدَرُ القيمُ، كربلاءُ. وكلُّ زمانٍ يُقتَلُ فيهِ بريءٌ، ويُذبَحُ فيهِ مظلومٌ، ويُطعَنُ فيهِ حُرٌّ، عاشوراء. ولو دخلَتْ عاشوراءُ يدَ القضاءِ لَما اختلَّ ميزانُ قاضٍ، ولو هبَّتْ على خَفْقِ رايةٍ لما أُذِلَّ وطنٌ، ولو لامسَتْ وِسادةَ حاكمٍ لما سادَ الظُّلمُ والفساد، ولَوِ استوَتْ على سريرِ خلافةٍ لما عرَفَ التّاريخُ قراصنةَ الأرضِ ولصوصَ الأُممِ.
لقد كان الحسينُ (عليه السّلام) صاحبَ مشروعٍ حضاريٍّ، أرادَ من خلالِهِ أن يَبنِيَ حضارةَ المحبّةِ، والعدلِ، والسّلامِ، فأضحى بعد استشهادِهِ قُدوةً، ومُلهِمًا، ومَثالًا أعلى للثُّوّارِ، والأُباةِ، والأحرارِ حولَ العالم.
إنّ التّمسُّكَ بتعاليمِ الحسينِ السّاميةِ هي المنارةُ الّتي تَهدينا إلى بَرِّ الأَمانِ، وتُجنِّبُنا التَّخَبُّطَ في أمواجِ الحياةِ الصّاخبةِ، وهي الصّرخةُ الّتي توقِظُ ضمائرَ الشّعوبِ النّائمةِ الخانعةِ الخاضعةِ المستسلمةِ للباطلِ وللظُّلم.
إنّ الحسينَ (عليهِ السّلام) علَّمَ الأجيالَ، على مرِّ العصورِ، الرَّفضَ، والشّجاعةَ، والتّضحيةَ، والإخلاصَ، والتَّفاني، فهو الثّائرُ المقدامُ الأبيُّ الّذي أَلْهَبَ القلوبَ، وأشعلَ الحَمِيَّةَ في النُّفوسِ، فغدَت كربلاءُ بفضلِ دمائهِ الزّكيّةِ مدرسةً في الجهادِ، والأخلاقِ، والقِيَمِ، وحازَتْ تُربَتُها شرفًا لا يعلوهُ شرفٌ، وفخرًا لا يُضاهيهِ فخرٌ.