يثبت التاريخ اعتداءات كثيرة على بيت الله الحرام فبعد كل هدم تعرضت له الكعبة المشرفة تعاد عمارتها، ومنها الاساءة التي طالت بيت الله الحرام على يد الحجاج الثقفي بعدما قرر عبد الملك بن مروان التخلص من عدوه ومنافسه عبد الله بن الزبير إلى الأبد، جهزَ جيشاً ضخماً لمنازلته في مكة، وأمّرَ عليه الحجاج ووجهه بالسير إلى مكة للقضاء عليه، فأخذت أحجار المنجنيق تتساقط على المسجد الشريف وانتهت الحرب بمقتل ابن الزبير وتهديم الكعبة المشرفة..
ويسرد السيد \محمد رضا الحسيني الجلالي\ في كتابه \جهاد الإمام السجاد\ (عليه السلام) في الفصل الثاني من النضال الاجتماعي والعلمي موقف الإمام السجاد (عليه السلام) مع الحجاج في إعمار الكعبة المعظّمة، منوها عنه بالموقف العظيم الدالّ على المراقبة التامّة لما يجري، مع التصدّي لاعتداءات الحكام الظلمة على الرموز الأساسية للدين، وهو موقفه من إعادة تعمير الكعبة، في ما رواه الكليني والصدوق، بسندهما عن أبان بن تغلب، قال: لما هدم الحجّاج الكعبة، فرّق الناس ترابها، فلمّا جاءوا الى بنائها وأرادوا أن يبنوها، خرجت عليهم \حيّة\، فمنعت الناس البناء حتى انهزموا، فأتوا الحجّاج، فأخبروه، فخاف أن يكون قد منع بناءها، فصعد المنبر، وقال: أُنشد الله عبدا عنده خبر ما ابتُلينا به، لما أخبرنا به.
قال: فقام شيخ فقال: إن يكن عند أحد علم، فعند رجل رأيته جاء الى الكعبة، وأخذ مقدراها، ثم مضى.
فقال الحجّاج: من هو؟
قال: علي بن الحسين.
فقال: مَعْدِنُ ذلك، فبعث الى علي بن الحسين، فأخبره بما كان من منع الله إيّاه البناء.
فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): \يا حجّاج! عمدت الى بناء إبراهيم، وإسماعيل (عليهما السلام) وألقيته في الطريق وانتهبه الناس كأنك ترى أنه تراث لك، اصعد المنبر، فأنشد الناس أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئا إلاّ ردّه\، ففعل، فردّوه، فلمّا رأى جميع التراب، أتى علي بن الحسين (عليه السلام) فوضع الأساس، وأمرهم أن يحفروا\.
قال: فتغيّبت عنهم الحيّة، وحفروا حتى انتهى الى موضع القواعد.
فقال لهم علي بن الحسين (عليه السلام): تنحّوا، فتنحّوا، فدنا منها فغطّاها بثوبه، ثم بكى، ثم غطّاها بالتراب، ثم دعا الفعلة، فقال: ضعوا بناءكم.
فوضعوا البناء، فلمّا ارتفعت حيطانه، أمر بالتراب فأُلقي في جوفه.
فلذلك صار البيت مرتفعا يصعد إليه بالدرج..
فالمراقبة واضحة في أخذ الإمام «مقادير الكعبة» لئلاّ تضيع المعالم الأثرية لأكبر محور لرحى الدين، وهي الكعبة الشريفة.
وإذا كانت تلك المراقبة تتمّ في ظرف ولاية مثل الحجّاج الملحد السفّاح الناصب لآل محمد العداء المعلن، فلن تخفى أهميّتها، ودلالتها القاطعة على التحدّي.
ومواجهة الحجّاج بمثل ذلك الكلام «كأنك ترى أنه تراث لك!» تصّد لانتهاكه لحرمة الكعبة المعظّمة، والتلاعب بها حسب رغباته الخاصة.
وأهم ما في الأمر جرّ الحجّاج الى التصريح بأن الإمام «هو مَعْدِن ذلك» وهي شهادة لها وقعها في الإلزام والإبكات للخصم اللدود.
وأخيرا: نزول الإمام (عليه السلام) الى القواعد وحده وربطه لنفسه بها بذلك الشكل أمام أعين الناظرين، إثبات لحقّه في إقامتها دون غيره.
وهل كلّ ذلك يتهيّأ إلاّ من التدبير العميق، والتخطيط الدقيق، ممّن يحمل هدفا ساميا في قلب شجاع، لا يملكه في تلك الظروف الحرجة، شخص غير الإمام السجّاد زين العابدين (عليه السلام)